ومن الحق أن المنصور برغم تشدده في سياسة الدولة وتضييقه على أفكار الناس فيما يتعلق بأمور الحكومة ونظمها حتى ليحاسب الناس على ما في ضمائرهم، ويعاجل بالقتل كل خارج عليه بل كل من كان وجوده خطراً عليه ولو لم يكن يستحق القتل، وكان فضله على الدولة عظيماً - بالرغم من كل ذلك كان جشعا للمعرفة إلى حد كبير فكان يحتضن الأطباء والمنجمين ويرعى ما ينقلون من الكتب العلمية والحكمية، ومن أجل ذلك كان مؤسس حركة الترجمة عن اللغات السريانية والفارسية واليونانية، كما كان يرعى إلى حد ما بعض العلوم الأخرى. كان توطيد الدولة همه فلم يكن يبلى في هذا السبيل بل في بعض شؤونه الخاصة عهداً قطعه ولا يبال أمور الدين وما جرت عليه العرب قبله في أخلاقها وتقاليدها.
فلما جاء ابنه المهدي سنة ١٥٨هـ كانت الخلافة قد استتبت له فلم يكن يخشى ما خشي والده من الفتن على الدولة. لكن عهده لم يكن خالياً من فتن ذات طابع خاص يميزها من الفتن التي قامت في عهد أبيه، وقد جعلته هذه الفتن يتجه إلى الحجر على الحرية الفكرية في عهده ولا سيما الزندقة. إذا كانت الزندقة طابع هذه الفتن وعنوانها، وهذا ما جعله دقيق الإحساس من ناحيتها، كلفاً بمعاقبة من يتهمون بها أن صدقاً وإن كذباً، جاداً في البحث عن اتباعها في كل مكان، فإذا وجدهم حاسبهم حتى على ما في ضمائرهم وعاقبهم بالظنة كأبيه ولو لم يجد من أعمالهم ولا أقوالهم مستندا للتهمة فضلا عن مبرر للتعذيب والقتل، أما فيما عدا الزندقة فكان المهدي حياله سمحاً حليماً، ولذلك تفصيل سيأتي بيانه إن شاء الله.