للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والصغير.

وقديماً نال بعض قضاتنا أذى كبير من أجل إقامة العدل ودحض الظلم، والصدع بالحق؛ ولكنهم صبروا فأعزهم الله بصبرهم وأظهرهم وأعلى أمرهم. هذا الحارث بن مسكين قاضي مصر يحمل إلى المأمون أيام المحنة، محنة الدين والخلق التي جربت فيها صلابة الرجال، وقوة العزائم ففاز في هذا الامتحان أقوام وخسر أقوام.

وكان إمام الفائزين أحمد بن حنبل - فيظل الحارث على ما يرى أنه الحق - ما لانت له عزيمة ولا وهت له قوة. وهذا عمر بن حبيب القاضي لا يسعه أن يسمع الطعن على أبي هريرة ويسكت فيحتسب دمه عند الله ويرد رأي الخليفة العظيم الذي قال للغمامة أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك: هارون الذي أباد البرامكة في ساعة وكانوا أعزة الأرض وكرام الناس، يرد عليه فيغضب ويعرضه على السيف والنطع، فيغلب حقه وثباته عليه، بطشة الرشيد البطاش، فيلين ويعفو ويكافئ ويشكر.

أو سمعتم قصة سلطان العلماء العز بن عبد السلام القاضي، أحد أفذاذ البشر علماً وحزماً وإيماناً ومضاءً، لما صح عنده أن المماليك لم يفارقهم الرق وهم حق لبيت المال، والمماليك يومئذ هم الملوك يا سادة! هم أصحاب الدولة والسلطان، فنادى ببيعهم فقاموا عليه قومة رجل واحد، وقام معهم كل متزلف من الناس لذوي الإمارة، وهددوه وسعى ساعيهم بالسيف إلى باب داره، فنزل إليه فأطفأ بهيبة إيمانه شعلة غضبه، وفل بعزيمته حد سيفه. وبقى على موقفه منهم حتى باعهم في سوق العبيد وقبض أثمانهم. . يا أيها السادة. إن منا قضاة كانوا يبيعون الملوك!

(دمشق)

علي الطنطاوي

<<  <  ج:
ص:  >  >>