ابن طولون بخلع الموفق من ولاية العهد، وأجابه القضاة كلهم إلا بكارا، فطلب أن يلعنوا الموفق فأمتنع بكار فألح عليه فأصر على الامتناع حتى أغضبه، فقال له: أين جوائزي؟ وكان يصله كل سنة بألف دينار، فقال: هي على حالها، هناك، فنظروا فإذا هي ملقاة بأكياسها في دهليز منزله. فبعث أحمد فقبضها.
على أن الغنم بالغرم. وإذا كثرت مرتبات القضاة فلقد كثرت تكاليفهم وازدادت الواجبات عليهم، وإذا كان العرف اليوم على أن الموظف إذا قام بعمله كان حراً في نفسه ووقته.
وهو لعمر الفضيلة عرف أشبه بالنكر، وإذا كان القانون اليوم لا (يكاد) يؤاخذ قاضياً على فسوق في نفسه أو عصيان لربه ما لم يتصل بعمله، فلقد كان القاضي يؤاخذ على الصغيرة والكبيرة وتطلب منه أخلاق الملائكة، وشمائل الصديقين، قد بوبت في ذلك الأبواب، وصنفت فيه الكتب، وشاع واشتهر، وأغنى الخبر فيه عن الخبر، ولم يبق للكلام فيه مجال، ولا لقائل مقال. وإني لأسرد طائفة من ذلك على سبيل التمثيل عليها، والإشارة إليها، لا أريد منها بالمحاكمة وأصولها فسيأتي الكلام في ذلك، ولكن أريد شمائل القاضي وآدابه في نفسه، وملاكها استعار التقوى، وإدامة المراقبة لله عز وجل. وقد امتحن علي رضي الله عنه قاضياً فقال له: بم صلاح هذا الأمر؟ قال: بالورع. قال: ففيم فساده؟ قال: بالطمع. قال: حق لك أن تقضي. ونصوا على أن من آكد الواجبات على القاضي ألا يحفل بالناس، ولا تأخذه لومة من لائم، وأن يقيم الحق، ولو أغضب الحق أقواماً. قيل لشريح: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت وشطر الناس علي غضبان.
وهذه يا أيها السادة مزلة أقدام القضاة، ولا سيما في أيامنا، لأن القاضي اليوم لا يعدم في كل قضية شفاعة ووساطة، فإذا أمضى الحق لم يحفل بالشفاعات ولا الوساطات، لم يخل من أعداء يشون به إلى أولى أمره، ويسودون ما بينهم وبينه، فيسوء رأيهم فيه، ويطول عتبهم عليه، ويؤخرون ترفيعه، وربما احتالوا على قانون حصانة القاضي فنقلوه إلى مكان سحيق، لأن العرف الحكومي اليوم أن الموظف الصالح هو الذي يألف ويؤلف، ويرضي عنه من حوله، ولا تثور عليه ثائرة، ولا تضح ضجة. وهل ينال ذلك قاض نزيه لا يعرف من الطرق إلا الصراط المستقيم. وليس له إلا وجهه الواحد الذي ركبه الله له. ولسانه الفرد الذي وضعه فيه، وما معه إلا قانون واحد يسوق بعصاه الوجيه والحامل، والكبير