القاضي أبن حجيرة الأصغر (وكان قد تغدى) فقال: أتتغدى؟ قلت: نعم. قال: أعيدي عليه الغداء يا جارية. فأتت بعدس بارد على طبق خوص وكعك وماء. فقال: ابلل وكل، فلم تتركنا الحقوق نشبع من الخبز!
وأي حقوق هي يا سادة؟! حقوق الله، حقوق الشرف والنبل والكرم. حقوق المسلمين. ابلل وكل يا إبراهيم! هذه لعمري أعظم وأجل من موائد الملوك:
واسمعوا تتمة القصة تعلموا ما هذه الحقوق؟ قال: وأتاه رجل يسأل حاجة. فقال: ليرجع. وسأل عنه وحقق عن فقره، فلما عرف فاقته. أعطاه ثمانية عشر ديناراً.
هذه هي التي تركته لا يشبع الخبز!
ولقد كانوا يغرمون الغرامات في أموالهم: كان القاضي أبو زرعة كثير الشفقة رقيق القلب، يغرم عن الفقراء والمستورين إذا أفلسوا، حتى كان بعضهم إذا أراد أن يتكسب أخذ بيد رفيقه فادعى عليه عند القاضي، فيعترف ويبكي ويدعي أنه لا يقدر على وفائه فيغرم عنه. وحصلت لبعض الشاميين إضافة (والشامي ولا مؤاخذة بصير باصطياد الدراهم) فقال لبعض أصدقائه: قدني إلى القاضي فلعله يعطيك عني شيئاً أنتفع به، ففعل وقال: أيد الله القاضي: لي على هذا الرجل ستون درهماً. قال: ما تقول؟ فأقر. فقال: أعطيه حقه. فبكى وقال: ما معي شيء، فقال للمدعي: إن رأيت أن تنظره. قال: فصالحه. قال: لا. قال: فما الذي تريد؟ قال: السجن. قال: لا تفعل. وأدخل يده تحت مصلاه فأخرج دراهم فعد منها ستين درهماً فدفعها إلى الرجل.
قال صاحب القصة: وآليت ألا أعود لمثلها!
وكان بمصر أخوان توأمان تكهلا ولا يفرق بينهما من رآهما من قوة الشبه بينهما فوجب على أحدهما دين فحبسه القاضي أبو عبيد، وكان أخوه يجيء زائرا له فيجلس مكانه في الحبس ويتوجه الأول. وشاع ذلك حتى بلغ القاضي فأحضرهما وقال: أيكما فلان؟ فقال كل واحد منهما: أنا! فأطرق القاضي. ثم طلب الغريم فدفع إليه الدين من ماله فراراً من الغلط في الحكم. فهل سمعتم في قضاة أمة بمثل هذا؟
على أن القضاة من كان يقضي بالمجان. قال أبن خذامر: ما أخذت على القضاء شيئاً إلا جوزتين فلما صرفت تصدقت بهما! وقريب من هذا ما صنعه القاضي بكار بن قتيبة لما هم