ينساه، وكان أبا حنيفة ينظر إلى ما وراء القرون فيرى هذا الزمان الذي فيه العلماء ينصرفون عن العلم إذا ولوا الولايات فكيف وقد كثر ما يتولاها الجاهلون. . .
وكان طلب الرجل العمل قادحاً في صلاحه ولم يكن الخلفاء يولون الأعمال طالبها. كان ذلك والإسلام إسلام؛ والناس ناس، فرحمة الله على أولئك الناس.
وكانت وظيفة القاضي (أي مرتبه) أجزل الوظائف ورزقه أكثر الأرزاق، ففي العهد الذي كان عمر يلبس فيه الثوب المرقع ويقنع بالزيت، وكان علىّ تجزئه قصعة ثريد، كان مرتب شريح القاضي خمسمائة درهم في الشهر، وكان مرتب أبن حجيرة الأكبر كما ذكره الكندي، ألف دينار في السنة فلا يحول عليه الحول وعنده منها شيء، بل كان ينفقها على أهله وإخوانه وفي وجوه البر. وكان مرتب أبن لهيعة ثلاثين ديناراً في الشهر. وأجرى مثل ذلك على القاضي المفضل به فضالة. وجعل عبد الله بن طاهر راتب القاضي عيسى بن المنكدر أربعة آلاف درهم في الشهر، وكان راتب أبي عبيد القاضي الفقيه مائة وعشرين ديناراً في الشهر، وكان يقول: مالي وللقضاء؟ لو اقتصرت على الوراقة ما كان خطي بالرديء!
وقد نقل الكندي في تاريخه صورة براءة (سند راتب) من أيام مروان بن محمد فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم من عيسى بن أبي عطاء إلى خزان بيت المال. فأعطوا إلى خزان بيت المال. فأعطوا عبد الرحمن بن سالم القاضي رزقه لشهر ربيع الأول وربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين ومائة عشرين ديناراً واكتبوا بذلك البراءة. وكتب يوم الأربعاء لليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين ومائة). وهي تبين لنا أن الرواتب قد تدفع سلفاً (وهي كذلك اليوم في بلاد الشام) وتكشف عن ناحية من الأسلوب المالي لدفع المرتبات.
نظر خلفاء المسلمين بنور الله فدفعوا إلى القضاة المال الوفير، والرزق الكثير، لتعف نفوسهم عن حرامه اكتفاء بحلاله، وذلك ما تفعله أرقى الأمم في زماننا وأقومها سيرة في القضاء، على أنهم لو تركوا قضائنا إلى دينهم لوزعهم، ولو خلوا بينهم وبين نفوسهم لقمعوها بخوف الله، وأزاحوا شهوتها بانتظار جنته وخشية ناره.
ولقد كانوا على المرتب الكثير، والعطاء الجزل، أولى تقشف وزهد، ينفقون المال يشترون به الجنة ثم يعودون إلى زهادتهم وقناعتهم: حدث إبراهيم بن نشيط قال: دخلت على