وكان الخليفة هو الذي يقلد القضاء، وربما قلده الوزير أو الأمير إذا ولاه الخليفة وصرح به في عهده، لأن القضاء في الأصل من حق الخليفة، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم واستقضى، وقضى الخلفاء الراشدون مكن بعده واستقضوا. وفي تاريخنا أسلوب بارع لتقليد القضاء، هو أن يدعو الخليفة أو الأمير مشيخة العلماء وكبار القوم ويأمرهم أن يعرضوا عليه أسماء من يصلح للقضاء، ويذكروا لكل عيوبه ومزاياه، ثم يختار من تجمع عليه الكلمة أو من يظهر فضله على غيره ظهوراً لا خفاء فيه، وأكثر ما رأيت هذا الأسلوب في قضاة مصر. ولقد كان تقلد عيسى بن المنكدر وأبي الذكر محمد بن يحيي بالانتخاب، ولما كان وفد مصر في العراق عند المنصور وجاءه نعي قاضي مصر، قال لهم: أعظم الله أجركم في قاضيكم أبي خزيمة. ثم التفت إلى الربيع فقال له: أبغنا لأهل مصر قاضياً، فقال له أبن حديج (وكان في الوفد): ما أردت بنا يا أمير المؤمنين؟! أردت أن تشهرنا في الأمصار بأن بلدنا ليس فيه من يصلح لقضائنا حتى تولي علينا من غيرنا. قال المنصور فسمّ رجلا. فقال: أبو معدان اليحصبي. فقال: إنه لخيار ولكن به صمم، ولا يصلح الأصم للقضاء. قال: فعبد الله بن لهيعة. فقال: فأين لهيعة.
انظروا أيها السادة إلى معرفة المنصور بأهل العلم من رعيته على بعد العراق ومصر، ورجوعه عن أمره الذي أمر به الربيع لما بدا له الحق فيما قال أبن حديج. واختياره الصالح للعمل بعد الاستشارة والسؤال. وتوليته إياه القضاء من غير طلب له ولا سعي منه إليه. ولولا حق المجاملة وإني ربما نشرت هذه المحاضرة في الرسالة، لقلت انظروا إلى حب أهل مصر بلدهم وقديم عصبيتهم له!
ونص الحنفية على أنه يجوز تقلد القضاء من السلطان العادل والجائر، وإنما يجوز تقلد القضاء من السلطان الجائر إذا كان يمكنه من القضاء بحق ولا يخوض في قضاياه بشر ولا يتداخل في أحكامه، ويجوز التقلد من أهل البغي كل ذلك لأن القضاء فريضة محكمة والقاضي إذا حكم بالحق فقد أقام الفريضة، وضرر تقلده من السلطان الجائر، أو الغاصب الباغي لا يعدل ضرر تعطيل القضاء وترك أمور الناس فوضى!
وكان أبو حنيفة يرى ولاية القاضي سنة واحدة يعزل بعدها ليعود إلى الاشتغال بالعلم فلا