ويعيشون ليعطوا برهان الإخلاص والاستقامة والصفاء والكرم، هم الذين يتحررون من كل الأهواء والمواجد والسفَّة، وإن لهم قوة خلقية عظيمة).
ثم كتب عن اصطناع الصاحب، والأمور التي يخُتبر بها الصديق، والجمال الذي يستحسن في الصداقة والأمور التي لا بد من عملها لاصطناع الأصدقاء، فذهب بادئ الرأي إلى أن الصديق هو الفرد الذي لا يحتجن الإنسان من دونه سراً من الأسرار، ويضع فيه أسباب الثقة، ويرى ألا يخشى الصديق من الإفضاء لصديقه ببعض الذي يطويه بين جوانحه من سر مكبوت قد يكون كتمانه مما يؤدي ويضر.
كيف يتسنى أن تكون حياة تلك التي يقول عنها (أنيوس)(الحياة تستحق العيش) إذا لم تعتمد على إرادة طيبة متبادلة مع صديق؟ ماذا يكون أحلى من أن يكون لديك امرؤ تجسر على مناجاته فيما ترور به نفسك، كما تناجي نفسك؟).
ثم يستطرد إلى القول بأن الصديق هو الشخص الذي لا تتملقه مطلقاً.
(في الصداقة، ما لم تظهر قلباً خالصاً لا تستطيع أن تكون مخلصاً ولا راضياً بالحب ولا بالمحبوب، والتملق الذي أتحدث عنه إنما هو كفاح، وقد لا يقوى على النيل من أحد سوى الذي يتقبله ويغتبط به. وعلى ذلك لا توجد صداقة فيها جانب لا يروم سماع الصدق، وجانب مستعد للكذب).
والصديق هو الإنسان الذي يتمثل فيه الإنسان الشفقة الرحمة ويتبادلهما وإياه، ويحنو القلب على القلب، وتمتزج النفس بالنفس، فتنطاد بالقداسة إلى علو السماك، فيرى شيشرون في هذا التبادل العاطفي حجر الزاوية في الصداقة وقاعدتها وركازها
(ولم يزل الحب أبعد قوة بالتعاطف وبالبرهان على عناية الآخرين بتا، وبالألف الشديد نتوثب للحب، وتتألق المعجزة).
والصديق هو الشخص الذي نحب سواء استطعنا الحصول عليه أو عجزنا دونه. يقول شيشرون (نحن نعتقد أن الصداقة مرغوبة لا لأننا متأثرون بالأمل في الريح؛ ولكن لأن ربحها الكامل في الحب ذاته. والحب ليس شيئا آخر سوى الاحترام العظيم وشعور الميل الذي ألهم هذه العاطفة، وليس ببحث عنها لأنها حاجة مادية أو بمقصد الكسب المادي.
وأكثر الناس لا يعترفون بشيء مهما يكن أثره في التجربة الإنسانية ما لم يؤد إلى بعض