فالجدول لا يتعلم كيف يجري في المنحدر، والنسر لا يتعلم كيف يشق بجناحيه الهواء، والنحلة لا تتعلم كيف تؤلف العسل!
الناقوس تقرعه القوارع في مكانه العالي ليوم بشرى أو يوم نعي، فينوح مرة ويشدو مرة، وأنا كنت بهذا الناقوس أشبه! طهرني الألم كما طهره اللهب , وحركت الأوتار المختلفة أوتار قلبي فأخرجت لكل عاطفة نغمة!
أنا كالقيثارة (الأيولية) تعزف طول الليل من تلقاء نفسها على خطرات النسيم، وتمزج خرير المياه بأنينها الرخيم، فيقف السائر حيران دهشاً مما يسمع! يطرب ويعجب ولا يدري مصدر هذه الزفرات المقدسة!
قيثارتي تخضل غالباً بالدموع! وما الدموع للمرء إلا كندى السماء للأرض! وهيهات أن ينضج القلب تحت السماء الصافية! فالكأس المصدوعة يسيل عنها عصير الكروم، والريحان الذابل إذا وطئته قدماك، تَضوَّع شذاه بين خطاك!
خلق الله نفسي من نغمة محرقة، فمن يتصل بها يحترق بلهبها! فيا عجبا لمنحة القدر!! أنا أسرفت في الحب ومن ذلك الإسراف أموت! ما لمست شيئاً قط إلا حال إلى رماد! كذلك رجوم السماء الساقطة على أشجار الخَلنَج، تنطفيء بعد أن تدمر كل شيء!
ولكن العمر! لقد استوفى اجله. . والمجد! آه! وما يعنيني من صدى نغمة باطلة تنتقل من عصر الى عصر، وسمعة كاللعبة البراقة تنحدر من جيل الى جيل؟ أيها الذين وعدهم المجد سلطان الغد! استمعوا الى هذا اللحن الذي يخرج من قيثارتي! هل تجدون لرنينه أثراً في الأذان، بعد ما حمله الهواء الى غير هذا المكان؟!
شهد الله أني منذ حييت لم أذكر هذا الاسم العظيم إلا بإزراء، ولطالما عصرت هذه الكلمة التي أخترعها هذيان الإنسان فلم أجد غير هواء، هنالك لفظتها كما تلفظ الشفتان قشرة يابسة.
في سبيل هذا الأمل الخالب، في هذا المجد الكاذب يرمي الإنسان في مجرى الزمن اسمه وهو عابر، فيلَقفه التيار، وتضعفه الأيام كلما سار، حتى يصير حطاماً تعبث به أمواج الدهر، ثم تحمله على غواربها من عصرٍ الى عصر، حتى تلقي به في لجج النسيان!
أنا كذلك القي اسمي بين تلك الأسماء العائمة، على هذه الأمواج المتلاطمة، ثم اتركه على