للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تكون مسته مواس الجنون قالت:

- يا بني نم، وأشفق على نفسك، فإنك مجهد الحس، مضعضع البدن!

. . . وتقدم منها في وناء ومهل، وأوسد راحتيه كتفيها وقال وهو يدفعها في هينة ورفق إلى الباب:

- أحرى بك يا أماه أن تعودي إلى فراشك، وأن تدعيني وحدي تسبح أفكاري وتنطلق شاعريتي. . . إن الشاعر يا أماه لا يعيش لنفسه وإنما يعيش لسواه!. . .

. . . وشاءت أن تتكلم إلا أن الكلمات ماتت على شفتيها. . . وصلت فيها دمعها يفصح عما إستسر في نفسها من ألم وكمد، ووجدت أنه لا معدى لها من أن تغادره، فمضت إلى حجرتها. . .

وبرقت في ذهنها، وفي مسترخية على فراشها، صورة ابنها يوم أن كان لا يزال في المهد كفلا غريراً. وذكرت أنها أملت وقتها أن يكون لها في المستقبل أمناً من الزمان. . . ولكن الفتى ما كاد أن يشب عن الطوق حتى صدف عن الدرس واجتوى المدرسة إذ أنس في نفسه رغبة مشبوبة في قرض الشعر. . .

وبدا لأمه أنه لا غناء في كل الجهود التي بذلتها ليعود ابنها إلى الدرس، وقد كبر في وهمه أنه شاعر. . . فغدا يتغنى بشعره الناس، وغدا يتردد اسمه على الأفواه ويغدو ذكره ملء الأسماع.

وكانت أمه تنصت إلى تلك الكلمات وإلى سواها، وتبكي في ابنها مظها العثر. فإن أقرانه قد واصلوا الدرس، وما كادوا يحصلون على درجاتهم العلمية حتى تلقتهم الوظائف الممتازة. . . وكثيراً ما كان يستجلي في عينها ما يدور برأسها فكان يقول لنفسه:

- هذه أني تبكيني حياً. لتبك اليوم؛ فإنها لن تلبث أن تضحك طويلا حينما آخذ مكاني بين فحول الشعراء، وكبار الأدباء فإنهم ليقولون في الأمثال الفرائد. إن من يضحك كثيراً لهو الذي يضحك أخيراً. . .

. . . وبقى الفتى في غرفته يدور على نغمات الموسيقى. وقد شبه له أنه يستند إلى صدر فتاة ناهد في دورة راقصة. فكان يحتوي فراغا - يمثلها - بين ذراعيه، حتى إذا ما انتهت الرقصة قال في صوت يفيض رقة وحناناً:

<<  <  ج:
ص:  >  >>