وإنسان من هذا النوع خليق بأن يحرر نفسه من ذل الزمن، وأن يتحرر من القيود والنزعات الهمجية التي لا تسيطر إلا على الشعوب الساذجة التي لم تنل قسطاً من يقظة الضمير، قبل أن يرفع عينيه إلى مصادر النور!
وليس مقياس مدنية شعب من الشعوب، هو مقدار ما يملك من قوة مادية، وإنما هو مقدار ما يملك من قوة روحيه تدفعه إلى حب الخير، وإلى التمرد على الظلم في صوره ومظاهره! والعقبات الزمنية التي يقف أمامها شعب من الشعوب في طريق سيره نحو الأبد المجهول، ليست إلا اختياراً عملياً، يقدمه ذلك الشعب للحياة، لنرى مقدار ما في طبيعته من حب للشر أو الخير ليمنحه التاريخ الشادة التي يستحقها.
ولقد يخدع شعب من الشعوب نفسه، ويدور حول الحقائق ويتحلل من شخصيته الصحيحة في سيره مع تيار الحياة، ولكنه لا يلبث أن يعود إلى قواعد نفسه مهزوماً مدحوراً، كما يعود إلى نفسه وطبيعته المجرم الأفاق الذي يتظاهر بالورع المزيف، والتقوى التي ليس لها في حسه وجود.
ولقد كلف الطموح الجنوني، في الأمس القريب، ألمانيا والعالم أجمع، ضحايا، وآلاما، ومتاعب، كانت نهايتها انهيار هتلر ونظامه، ومن ورائهما ألمانيا العظيمة، تلك الأمة التي دمرها ذلك الطموح، وجرعها مرارة الذل والخضوع.
واليهود، وهم حفنة في حساب العدد، يطمحون إلى السيطرة. على سبعين مليوناً من العرب، بانتزاعهم فلسطين، وهي قلبهم الخفاق، غير مقدرين النتائج الوخيمة التي ينطوي عليها هذا الاندفاع الجنوبي.
والفظاعة المتناهية، في صور القسوة والبربرية والهمجية، التي يعتدون بها على النساء والأطفال والشيوخ، حتى على جثث الشهداء، سياسة يحسبون أن اتباعها يرهب العرب ويوصلهم إلى ما يريدون منهم. وقد نسوا أو تناسوا، أن العرب أمة عريقة في المجد، شديدة البأس، لا تلين لأساليب العنف، ولا يزيدها ذلك إلا عنفواناً وصبراً وجلداً وتصميما على الأخذ بالثأر، مهما تطاول الزمن، ومهما جسمت التضحيات.
ولقد سبق للغرب أن شن هجومه على الشرق باسم الدين، في الحرب الصليبية، وفي فلسطين نفسها، فلم يهن العرب، وبقيت الحرب بينهم وبين أوربا سجالاً قرابة قرنين من