فصار حديث القباني الممثل المطرب والمنشد البارع والملحن الأوحد مالئ دنيا الشام وشاغل أهلها.
ولما أقبلت عليه الدنيا إقبال الأتي المنهمر، وبسم له الدهر وصلحت حاله، أخذ محلاً في (خان الكمرك) في العصرونية بالقرب من المدرسة العادلية، وأقام مسرحه هناك في منتصف المدينة. وهنا استفاض الحديث في المنازل والمجالس عن عظيم مواهبه وسحر فنه، وكثر رواد مسرحه، وعشاق موسيقاه، وتمثيل رواياته، فلا حديث في المدينة إلا حديثه، ولا ذكر إلا ذكره. . .
وكان كلما تدفقت عليه الأموال ينفقها في سبيل تحسين مسرحه وجلب الحاجات الفنية الغامضة إليه، ففتن الناس وخلب عقولهم حتى بلغ من شأن الاهتمام برواياته أن صار الفقير منهم الذي لا يملك ثمن بطاقة الدخول يبيع فراشه وأواني بيته وحلي زوجته ليشاهدها ويجتلي طلعته فيها، وكان لشدة الازدحام يؤم الواحد منهم القاعة من الصباح ويبقى فيها حتى المساء ليشاهد الرواية، فإذا ما انقضت اللذة بمشاهدة رواية تولدت شهوة ولذة بمشاهدة غيرها. ومن شدة الازدحام على أبواب القاعة المقام فيها المسرح أسس الدخول إليها لا يكون إلا تحت إشراف السلطات المحلية، وصارت تباع التذاكر لدى مكاتب المتعهدين قبل ثلاثة أيام، ومن يتأخر عن حجز مكان له في أسبوع قبل ثلاثة أيام أو أربعة أيام يضطر مكرها للخطوة بمشاهدة هذه الروايات في الأسبوع الذي يليه.
وكان الوالي في قاعة المسرح مقصورة يقصدها كل ليلة ويمتع سمعه وبصره بهذا الفن الأخاذ بالرغم من جهله باللغة العربية التي يمثل فيها القباني رواياته.
ومن عادة الدهر ألا يبقى على حالة واحدة، وأنه إذا ضحك إنسان يوماً ما سيتجهم له إذا دالت دولته وولى زمانه وشالت نعامته، وخانه صحبه وأوطانه، وقديماً قال الشاعر:(من سره زمن ساءته أزمان. . .).