بقى القباني يفكر في تذليل هذه العقبة وتسهيلها مدة من الزمن حتى بدا له أن يمضي في طريقه غير وجل ولا هباب، ويستعيض بدلاً عن النسوة الفتيان (الغرانق) ذوي الشارات الحسنة والمياسم المغرية. ولما شرع في عمله، ورأى الإقبال عليه والتشجيع والتنشيط من كل صوب وناحية وأصبح العارضون أنفسهم عليه من الفنانين أصحاب المواهب ومن الفتيان ما يفيض عن الحد المطلوب طار من إهابه فرحاً، لا سيما وأكثرهم عرض نفسه عليه بدون أجرة تشوقاً ولذاذة، فألف على الفور فرقة تمثيلية كانت تمثل الروايات في بدء عهدها، في البيوت والقاعات، الخاصة، فذاع خبر هذه الروايات في الشام حتى بلغت مسامع (الوالي) التركي (صبحي باشا)، وكان ممن يقدرون الفن والمواهب، فحضر بنفسه تمثيل رواية من الروايات في حفلة أقيمت على شرفه بصورة خاصة في بيت ثري من أثرياء الشام وهو كثر في ذلك العهد، فدهش مما سمع ورأى، وهام بحب أحمد كل الهيام وأدناه من مجالسه، وجعله موضع عنايته، فصار شفيعاً ووسيطاً ما بين الحاكم والرعية، ما من أحد عرضت له مهمة لدى الوالي وقصد أحمد بها إلا قضاها له.
رأى الباشا في هذا النابغ الدمشقي الشروط المتوفرة للقضاء على الجمود الفكري في الشام وتهذيب النفوس الجامحة بواسطة التمثيل والموسيقى، فأوعز إليه أن يؤلف جوقة وأن يقيم مسرحاً في المكان الذي يختاره.
ولقد رمى الوالي بهذه الفعلة إلى غاية سياسية الجملة تملك أهمية صرف الشعب المتوثب عن الحياة الطليقة التي كان أوجد نواتها في البلاد قادة الثورة الفكرية الشيخين المصلحين الإمامين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
فتم له بذلك ما أراد، وكان إقبال الشعب على مشاهدة روايات القباني يفوق حد الوصف ويشب عن الطوق، فأقام مسرح في خان من خانات البذورية، وأول رواية عرضها على الجماهير الحاشدة رواية ناكر الجميل، فأحرزت شهرة فائقة ونالت نجاحاً عظيماً في الأوساط، ثم اتبعها برواية وضاح فلم يكن افتتان الناس بهذه الرواية أقل من افتتانهم بسابقتها، وهكذا دواليك أخذ هذا النابغة الموهوب يتدرج بفنه من حسن إلى أحسن ومن جيد إلى أجود، حتى طارت شهرته في جميع الأنحاء السورية، وتخطتها إلى الأقطار المجاورة،