قالت به من خيرية الله، ونزوع الكائنات إلى أن تنجذب بالشوق، وأضاف إليها ما كان قد تأثر به من قول ارسطو - وما كان شائعا لعصره - من حركة الأفلاك السماوية حركة دائرية حول عقولها لتصل إلى الواحد، وازدياد شوقها أبداً للوصول إليه وإن كان ذلك الوصول بعيداً عنها؛ إذ الكواكب في رأي ابن سينا حيوانات مطيعة لله تعالى (ص ٢٥٨)، ولكل منها عقل يديره كما أن له نفسا تحركه. وقد ساهم هو في ما كان شائعاً بين معاصريه من أن كل كوكب من كواكب الأفلاك يشبه إلهاً من آلهة اليونانيين، فالشمس للحرارة، والقمر للرطوبة والمريخ للغضب. . . الخ وهذه الأفلاك التسعة أجسام سماوية تؤثر حركتها في نفوسنا وأجسامنا - مما تأثر فيه الفارابي في (مدنيته الفاضلة)، ومما عابه عليه ابن رشد حين طعن الغزالي بأقواله هذه على الفلسفة.
أرأيت إذن موضع النفس في ترتيب الموجودات عند ابن سينا؟ الأفلاك لها نفوس تحرك أجسامها في العالم العلوي، والأجسام النباتية والحيوانية والإنسانية لها نفوس تحركها في العالم السفلي، وبين العالمين يقف العقل الفعال وسيلة وواسطة اتصال. وفوق العالم العلوي كله الجوهر الفارق غير الجسم، والصورة المجردة؛ الذي هو الله، والعقول العشرة المدبرة التي تتأمله وتتعقله، وتحت العالم السفلي كله الهيولى أو المادة الأولى التي هي محل نيل الوجود في كل موجود، وفي كل طبقة فيما بين ذلك جملة موجودات ذات مواد وصور متنوعة شتى.
وحسبكم إذن هاتان المقالتان في التقديم لدراسة النفس عند ابن سينا، ولشرع منذ المقال التالي في تحليل الفصل المطلوب إليكم دراسته.