ابن سينا قد قصد (بالواحد) هنا الله وذلك ما لا يدل عليه قوله هذا الذي سبق أن بينت لكم مرجعه فعودوا إليه، فقد لا تجدون فيه هذا التناقض الذي أجد.
ثانياً: وما قلته في الوجود تنشأ عنها الكثرة، يقال مثله في الروحية تنشأ عنه المادية. فقد أراد ابن سينا من توسيط العقل الأول بين الله والموجودات أن يبعد عنه صدور الكثرة من ناحية والمادة من ناحية أخرى؛ لأن الله ليس بمادي، ولذا كان العقل الأول الصادر عنه غير مادي أيضاً، ولكن كيف يتأتى لهذا العقل الأول أن يخلق بتأمله (الذي هو عقل روحي) مادة الجسم الأول نفسه؟ هذا تناقض وغموض آخر.
ثالثا: أن هذا المذهب يقف بالفيض عند الفلك العاشر، فلك القمر وكرة الأرض؛ أي العقل الفعال. ولا يبين لنا كيف تفيض أشياء هذا العالم عن العقل الفعال، وهل هي تفيض عنه لعلم الله أو بغير علمه، فذلك - فيما أظن - هو الذي حدا بابن سينا إلى أن يقصر علم الله على الكليات دون الجزئيات. (النجاة ص ٢٤٧). واعتبر الغزالي ذلك كفراً صريحاً؛ لأنه تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض. (كما أنك إذ تعلم الحركات السماوية كلها، فأنت تعلم كل كسوف وكل اتصال وانفصال جزئي، فكذلك الإله يعلم الجزئيات ولا يغرب عنه شيء شخصي)(الغزالي: المنقذ من الضلال، طبعة دمشق الثالثة ص ٩٥)، رداً على ابن سينا (النجاة ص٢٤٨).
والنتيجة الضرورية لهذا المذهب الأول بقدم العالم - وإن لم يستطع ابن سينا أن يقول به صراحة. فإن الله قديم ولا شك. وما دام العالم ينشأ عنه تعقله لذاته على هذا النحو، وتعقله لذاته صفة لا تنفك عنه، فلا بد أن يصدر عنه هذا الفيض منذ الأزل لا سيما أن العقل الأول واجب الوجود به؛ بمعنى أنه يفترض وجوده منذ افتراض وجود خالقه تبعاً لتعريفه هو لواجب الوجود فوجوب وجوده ضروري لا من حيث أنه ممكن بذاته؛ بل من حيث هو واجب بالله. وبمثل ذلك يكون العقل الثاني ضرورياً بالأول. وهكذا تستمر السلسلة ويتم الخلق بهذا الفيض الأزلي القديم عن الله الأزلي الواجب الوجود.
ومهما يكن من أمر هذه النظرية فهي لا تعدو أن تكون مزيجاً من نظرية أرسطو في عقول الأفلاك، ومن مذهب أفلوطين في فلسفة الإشراقية التي ظلت مورداً يفيض بالخصب والوفرة في كل فلسفات الأديان. وقد جارى ابن سينا هذه الأفلاطونية المحدثة، فقالي بما