ذلكم أن تأمل الله لذاته هذا يحدث له لذاته من ناحية، ويحل مشكلة ابن سينا من ناحية أخرى. فمن هذا التأمل يصدر الفيض الإلهي ويكون الخلق. فينشأ أولاً عقل أول هو واجب الوجود بالله ممكن بذاته. وهذا العقل الأول حتى الآن واحد وروحي، ولكنه يتأمل الله من ناحية، ويتأمل ذاته من ناحية أخرى. فمن تأمل العقل الأول لله ينشأ العقل الثاني، وعن تأمله لذاته ينشأ الفلك الأول جسمه ونفسه. ثم إن هذا العقل الثاني من حيث أنه واجب الوجود بالأول يتعقل هذا الأول فينشأ العقل الثالث، ويتعقل من ناحية أخرى ذاته - من حيث هو ممكن الوجود بذاته - فينشأ جسم الفلك الثاني ونفسه، وهكذا يظل كل عقل يتأمل وجوبه بغيره فينشأ عنه عقل أدنى. ويتأمل إمكانه بذاته فينشأ عنه جسم ونفس الفلك المرتبط به حتى ينتهي الأمر إلى العقل العاشر المدبر لعالم الكون والفساد، وهو العقل الفعال الذي تتصل به نفوس البشر.
فالعالم العلوي إذن يتركب من سلسلة متراكبة كل حلقة فيها تحتوي على ثلاثة أشياء: عقل، وفلك، ونفس. وعلى رأسها جميعاً واجب الوجود لذاته الذي لا يبدع إلا العقل الأول، وهذا يبدع لأول مرة ثلاثة أشياء. عقلاً ثانياً، وفلكاً نفسياً، وجسمياً. وهكذا تتكرر العملية حتى تخلص لنا عشرة عقول وتسعة أفلاك؛ آخرها فلك القمر وكرة الهواء المحيطة بالأرض
وأترك لكم تصور هذا العالم العلوي كما تشاءون، ولكني أود أن تلاحظوا معي على هذه النظرية الفروض آلاتية:
أولاً: افتراضها منذ البدء أن الله واجب الوجود لذاته، وأنه عقل وعاقل ومعقول.
ثانياً: تسليمها بأنه واحد، وانه لا يصدر عن الواحد إلا الواحد - بالنسبة لله على الأقل.
ثالثا: قيامها على تعقل الله لذاته وتأمله لنفسه - وكذلك الأمر في العقول الأخرى كل بدوره - كأساس للخلق، ومبدأ للجود الإلهي. كما أريدكم أن تقفو بعقولكم طويلاً عند مناقشة مأخذها التالية:
أولاً: أنها - وقد وضعت قانوناً عاماً، هو أنه لا يصدر عن الأحد إلا الواحد - قد قصرت تطبيقه على واجب الوجود وحده ثم تجاوزته في الحال مع العقل الأول فجعله يخلق ثلاثة أشياء بدلاً من شيء واحد. مما يجعلها متناقضة مع ذاتها منذ اللحظة الأولى - إلا أن يكون