الخلق يفيض عن الخالق، وأن الوجود يصدر عنه بمحض الجود. فيتبعه الإسلاميون في هذا، كما تبعوه في غيره؛ سواء من علم منهم أنه لأفلوطين - على اختلاف بينهم - فأوقعهم ذلك في القول بقدم العالم من حيث لا يشعرون.
ويذهب ابن سينا في ذلك إلى تصنيف الموجودات من حيث الجهة إلى واجب الوجود، وكل واجب أو ممكن فهو إما بذاته أو بغيره، ومن هذين التقسيمين الثنائيين مجتمعين تنقسم الموجودات إلى واجب الوجود لذاته، وممكن الوجود بذاته، ثم إلى ممكن بذاته واجب بغيره.
وواجب الوجود عنده - كما تجدون في المقالتين الأولى والثانية من إلهياته هو الوجود الذي متى فرض غير موجود عرض منه محال؛ أما ممكن الوجود فهو الذي إذا فرض غير موجوداً أو موجوداً لم يعرض منه محال. فالواجب الوجود هو الضروري الوجود، والممكن الوجود هو الذي لا ضرورة فيه بوجه - يعني في وجوده أو في عدمه - فليس وجوده أولى من عدمه إن انعدم، ولا العكس إن وجد، فهو الذي ليس ضرورياً ولا ممتنعاً. وواجب الوجود - كما قلنا - قد يكون واجباً بذاته وقد لا يكون بذاته، فواجب الوجود لذاته (هو الذي لذاته لا لشيء آخر)، أي أن مجرد افتراض العدم فيه محال. وأما واجب الوجود لا بذاته (فهو الذي لو وضع شيء مما ليس هو صار واجب الوجود). فالأربعة مثلاً واجبة الوجود لا بذاتها بل بفرض اثنين واثنين مجموعتين أو مضروبين. والاحتراق واجب الوجود أيضاً لابذته، بل بفرض تلاقي القوة المحرقة بالقوة المحترقة (ص٢٢٤).
وأدلته في إثبات واجب الوجود كثيرة ليس عليكم أن تحيطوا بها، وحسبكم أن تتبينوا أن كثرتها إنما جاءت من تسليمه بها قبل البدء في البرهنة على ما يريد. فأعانه (سبق الإصرار) هذا كما يقال في لغة القانون، و (الفكرة الثابتة) هذه - كما يقال في علم النفس؛ على أن ينتزع كثيراً من البراهين يؤيد بها قضيته. وإلا فما كان له أن يثبت - وما كان لقارئه أن يفهم أن (كل شيء يكون كافياً في أن يوجد بذاته، فهو واجب الوجود (لو لم يتمثل في قرارة نفسه صورة الله الذي يؤكد له الوجود والوحدانية والخير وأنه عقل وعاقل ومعقول، وأنه عاشق ومعشوق، وأنه لذيذ وملتذ. . . ولماذا لا يلتذ من يشعر بكماله حين يتأمل نفسه.