بل إن ابن سينا يذهب إلى ما هو ابعد من ذلك فيحدثنا عما يسميه العقل القدسي، فيمن كمل استعدادهم من الناس وهم قلة لأن يتصلوا بالعقل الفعال دون عناء، ولأن يحصلوا على هذه المعقولات وكأنها من عند أنفسهم وحاضرة قيهم، وذلك بما لديهم من الحدس والعيان والمكاشفة أرقى وسائل المعرفة الفيضية هذه التي تدرج بك فيها. وحجته هنا مقنعة وبليغة، وهي أنه يتصور أن أية معرفة عقلية تقوم على القياس والمنطق فهي استنباط نتيجة من حد أوسط مشترك بين مقدمتين، كما تعرفون في منطق الأستدلال؛ بينما توجد معرفة أخرى أرقى يقوم فيها الحدس والذكاء المفرط ذاتهما باختصار هذا الحد الأوسط والوصول مباشرة إلى النتيجة. وهذه النظرية في المعرفة هي أصح ما في مذهب ابن سينا في العقل الإنساني بعد تقسيمه إياه إلى نظري وعملي، لا يزال يقول بها من بعده الغزالي والصوفية وبرجسون في هذا العصر الحديث، حين يجعلون الحدس والعيان قوة إدراك مباشرة تنعدم فيها الواسطة. وغاية ما يؤخذ عليه فيها عدم تحديد مصطلحاته واشتراكها في تسمية شيء واحد. فنحن الآن نفهم بالذكاء القدرة على إدراك المواقف خلال الحدود الوسطى، وبالعيان والحدس الوصول إليها عفواً وتجربة وبلا وساطة.
لقد تدرجنا بك مع ابن سينا حتى الآن في سلسلة من الكائنات النفسية عجيبة الترتيب والتصنيف؛ من أقلها شأناً حتى أعظمها قدراً؛ من قوة التوالد في النفس النباتية حتى العقل القدسي في النفس الإنسانية. وعليك بعد هذا أن تقلب هذه السلسلة التصاعدية رأساً على عقب، وتنظر إليها نظرة تتبين منها أن كل قوة من كل نفس من هذه النفوس تقوم على خدمة الأعلى منها، لا يقتصر الأمر على مملكة النفوس هذه، بل إن القوى الطبيعية تقوم في خدمتها جميعاً. والله المسئول أن يعينكم على أن تتسع عقولكم لتدخل فيها عقلية ابن سينا هذه الكبيرة.