كنت أعرف الأثر الذي تركه حب (مها) في قلبه وكيانه ونفسه. كنت أعرف عمق هذا الأثر؛ فلم يكن بدعاً أن يبدو أعمق منه جرح خيانتها إياه، في أعنف فترة من فترات حبه. وقد بلغ من شدة هذه الصدمة أن رفيق لم يحدثني عن الخيانة إلا مرة واحدة بكلمات قليلة مقتضبة، كأنما كان يرغب في أن يوفر على نفسه العذاب الشديد الذي تبتعثه ذكراها. . .
ومنذ ذلك اليوم، تبدى لي صديقي كالشبح التائه الحائر، يسير دون أن يعين مقصداً ومن غير أن يستشرف محجة. كان كهؤلاء الذين كتب عليهم أن يقضوا حياتهم هائمين سادرين، في طريق ضالة، يتناولون الأحداث كما تأتي، ولا يفكرون بغير اللحظة التي يحيون.
على أن شيئاً من ذلك لم يكن ليبدو في ظاهر الحياة التي يسوقها صديقي. . . بل لقد كانت آثار السعادة وآيات الرضى والمرح بادية على وجهه، حتى تحسبه قد طرح عنه هموم الدنيا وتدرع باللامبالاة واتخذ من الحياة كلها أداة لهو ومتعة. . . أفيكون هذا رد فعل عنيفاً للصدمة النفسية التي حطمت أعصابه وأوهنت قواه؟
ولعل أعجب ما في أمره أن سعادته تلك كانت تتجلى أكثر ما تتجلى إزاء مبعث شفائه الغامض ومصدر ألمه المكنون. . . إزاء المرأة نفسها. . . سعادة ترتسم بسمة على ثغره لا تفيض، ومرحاً في عطفه لا ينفذ.
وكنت كلما لقيته أستمع إليه يحدثني عن مغامراته فيصدفني الحديث، فلا أعجب من أن تقبل عليه الفتيات كلفات بحبه شديدات الإعجاب بشبابه، وكان هذا يتيح له أن يحظى من المرأة بما تمتنع عن بذله غالب الأحيان.
وقد كنت موقناً أن صديقي يطلب في المرأة أول ما يطلب الجمال الفاره، والفتنة الطاغية، وكان سرعان ما ينصرف عن الفتاة التي لم يجد عليها القدر بحظ بالغ من الجاذبية والحسن. وقد عرفني ذات مساء بفتاة في متجره ظلت صورتها مطبوعة في عيني طوال تلك الليلة، ولم أستطع أن أخنق شعور الحسد الذي داخلني منه! كانت (سميرة) - وهذا هو أسمها - ذات عينين تنفثان السحر، وملامح تعجز يد فنان النابغ عن أن تخط مثلها في الدقة والانسجام، وقامة نحتت في قالب صناع.