لتنحني أمام الطاغوت انحناءه العبودية حتى يمس أنفها الأرض، فحشدت الشعب في شوارع العاصمة ليهتف وهو جائع، ويرقص وهو عريان؛ وتركته يهيم في الطرق والميادين هيام القطط الجياع والكلاب الضالة؛ لا يجد في نفسه فرحة المعرسين ولا متعة المدعوين ولا بهجة العرس!.
أما هذا المهرجان فمن صنع الطبيعة والأمة. إقامة الخارجون من ظلام الظلم، والناجحون من إسار الرق، كما تقيم الطبيعة مهرجان الربيع لخروجها من ظلام الشتاء ونجاتها من همود الأرض. فكما يورق الشجر ويزهر، وينضر الزهر ويفوح، وتمرح الطير وتهزج، ترى الشعب من ذات نفسه يبتهج ويفوح، ولإطراب نفسه يغني ويرقص، ولإطراء نفسه ينشد ويهتف!.
ذلك لأنه بات ذات ليلة ثم أصبح فإذا هو صاحب العرش وصاحب الجيش وصاحب الحكم وصاحب الثروة! نام وهو لاشيء، ثم استيقظ وهو كل شيء! لقد استطاع في هذه اللحظة القصيرة من عمره الأطول أن يضع هذا النير الثقيل عن كاهله الواهن بعد أن مكن له الرق المزمن بين اللحم والعظم والعصب!.
كان قد ألف نير العبودية كما يألف الثور الذلول نير المحراث فلم يفكر في الانعتاق منه؛ إلا مرة واحدة حاول أن يفلت فيها من قيده فعجز. كان هذا النير فرعا غليظا من هذه الشجرة الملعونة درعه الإنجليز بالحديد والذهب، فشق على عرابي الثائر الأول أن يحطمه. ثم عظم وضخم بفضل الأفظاظ الغلاظ من أولى الأمر في عهد الخليع الرقيق، حتى رزحت الكواهل وخرت الأعناق، وحسب الناس حتى المتفائلون أن الليل سرمد، وأن الرق خلود، فقروا على الضيم واستكانوا للهون. وكادت مصر كلها تسقط بسقوط فاروق ومن على دين فاروق لولا أن نبه الله للخطر رهطا اصطفاهم من رجال القيادة، فنفخوا في الصور فنهض الجيش وانبعثت الموتى. وقاد الشعب محمد نجيب وأصحابه في معركة التحرير والتطهير، فحرروا الأمة من النير الباهظ، وطهروا الوطن من الفساد الشامل؛ وعمدوا إلى أوكار الأفاعي وأجحار الذئاب فقوضوها على الأذى والجريمة. ثم فتحوا أبواب الرزق المحتكر أو المغتصب فتدفق على أهله المحرومين منه المكدودين فيه. ثم لخصوا دين الله في ثلاثة أمروا هبا، وهي العدل والإحسان والمؤاخاة؛ وثلاثة نهوا عنها،