للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وكانت قلوبهم من فزعهاتنبض نبضاً مثل ضربات المعاول.

وباقتراب الحبيب المحتضر من المجهول، يصبح من يحبه في مجهولٍ آخر فتختلط عليه الحياة بالموت، ويعود في مثل حيرة المجنون حين يمسك بيده الظل المتحرك ليمنعه أن يذهب! وتعروه في ساعة واحدة كآبة عمرٍ كاملٍ، تهيئ له جلال الحس الذي يشهد به جلال الموت!

وحانت ساعة ما لا يفهم، ساعة كل شيء، وهي ساعة اللاشيء في العقل الإنساني! فالتفت العروس لأبيها تقول: (لا تحزن يا أبي. . .) ولأمها تقول: (لا تحزني يا أمي. . .!)

وتبسمت للدموع كأنما تحاول أن تكلمها هي أيضاً؛ تقول لها: (لا تبكي. . .!) وأشفقت على أحيائها وهي تموت، فاستجمعت روحها ليبقى وجهها حياً من أجلهم بضع دقائق! وقالت: (سأغادركم مبتسمة فعيشوا مبتسمين، سأترك تذكاري بينكم تذكار عروس!. . .)

ثم ذكرت الله وذكرتهم به، وقالت: (أشهد أن لا إله إلا الله) وكررتها عشراً! وتملأت روحها بالكلمة التي فيها نور السموات والأرض، ونطقت من حقيقة قلبها بالاسم الأعظم الذي يجعل النفس منيرة تتلألأ حتى وهي في أحزانها

ثم استقبلت خالق الرحمة في الآباء والأمهات! وفي مثل إشارة وداع من مسافر انبعث به القطار، ألقت إليهم تحية من ابتسامتها، وأسلمت الروح!

- ٤ -

يا لعجائب القدر! مشينا في جنازة العروس التي تزف إلى قبرها طاهرةً كالطفلة ولم يبارك لها أحد! فما جاوزنا الدار إلا قليلاً حتى أبصرت على حائطٍ في الطريق، إعلاناً قديماً بالخط الكبير الذي يصيح للأعين؛ إعلاناً قديماً عن رواية هذا هو اسمها: (مبروك. . .!)

واخترقنا المدينة وأنا أنظر وأتقصى، فلم أر هذا الإعلان مرة أخرى! واخترقنا المدينة كلها، فلما انقطع العمران وأشرفنا على المقبرة، إذا آخر حائط عليه الإعلان: (مبروك. . .!)

طنطا

مصطفى صادق الرافعي

<<  <  ج:
ص:  >  >>