الطير ورقته. ولكن فيلسوفنا الشاعر لا يرضيه تشبيه الروح في هبوطها بالطير على عمومه، بل أجال بصره في عالم الطير لعله يجد بينها نوعاً خاصاً يكون أقربها صلة بالروح، فما أسرع أن ساقه صدق شعوره وكمال إحساسه إلى الحمائم، وهل تستطيع أن تدلني على طير هو أشد من الورق استئناساً ووداعة، وأطول من الورق حنيناً وأصدق بكاء؟! وإذن فما أشبه الروح بالورقاء، فهي قد نشأت في عالم قدسيٍ رفيع، مجردة عن ملازمة المادة ومواصلتها، فلما كان لها أن تهبط إلى الجسد المادي، طال ترددها واشتد تعززها وتمنعها، وكانت فيما أحست من ألم كمن ينتحب بالبكاء، حنيناً إلى عالمها ذاك، ونفوراً وازوراراً من الأخلاط الجثمانية التي كتب لها أن تهبط إليها فتعيش بينها فترة من زمان محجوبةٌ عن كل مقلة ناظرٍ وهي التي سفرت ولم تتبرقع.
ألا ما أعجب الروح! إنها تلازمك أينما حللت، لا تفارقك إلا يوم تكون أنت لست اياك، فهي قريبة منك، بل هي أنت؛ تسري في دمائك، وتدب في كل عضو من أعضائك، ثم هي مع ذلك تمتنع عن النظر وتستعصي على الادراك! فاذا ما حاولت رؤيتها تحجب وأسدلت حول نفسها قناعاً صفيقاً لا ينفذ منه شعاع من بصر، لماذا؟ لأنها تذكر ماضيها الجليل، يوم كانت في العالم الأقدس الرفيع، فتأخذها العزة والكبرياء، وتتعالى عن إدراك العيون! وكيف تردها على الظهور أمام مقلتيك وهما لم تخلقا إلا لرؤية الأجساد المادية وحدها؟ فأما هذه الماهية المجردة فهيهات أن تدركها بالنظر؛ وكل محاولة منك في هذه السبيل صائرة حتماً إلى فشل وإفلاس، ولكن لا تيأس يا صاحبي، فثم سبيل لإدراكها غير هذه المقل، وغير هذه الحواس جميعاً، انظر إليها بعين العقل تجدها واضحة سافرة كاشفة عن وجهها لا تسدل من دونه البراقع والستور، فهي إن كانت تأبى أن تبدو للحواس فذلك لأنها تعلو بنفسها عن هذا الدرك الخسيس، وهي إنما تتضح وتجلو لكل عاقل من الناس، يبحث عنها بعقله في آثارها ودلائلها. إذن فالروح مع كمال خفائها وشدة غموضها عن العين، يمكن إدراكها بالعقل لمن يريد معرفتها بالدليل والبرهان.
وَصَلَتْ على كرهٍ إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات توجع
لقد علمت أن الروح قد اتصلت بهذا الهيكل الجثماني متأبية مقهورة مكرهة، ولكنها من عجيب أمرها عادت فكرهت أن تفارق هذا الجسد الذي أرغمت على الحلول فيه أول الأمر