للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إرغاماً، أما كونها جاءت مكرهة فلأنها حين هبطت إليك كانت تعلم أنها إنما تتصل بكتلة من المادة. ليس بينها وبينها تآلف وتجانس، إذ ليست هي في تجردها وروحانيتها شبيه بالجسد في ماديته، وهل تستطيع أن تظفر بأنس من رفيقك إذا لم يكن بينك وبينه تجانس في الصفات؟ فإن أرغمت على هذه المرافقة إرغاماً على ما بينكما من تنافر وتناكر، فأنت لاشك غاضب كاره؛ وأما كونها تعود فتكره فراق الجسد فذلك لأنها قد تمكنت منه وسرت في أنحائه سرياناً شديداً، فتشبثت به تشبثاً قوياً متيناً ليس انحلاله أو زواله هنة هينة، وأنت تستطيع أن تلتمس ذلك في نفسك إذا هممت بالانتحار، فلن تجد من نفسك إقبالاً على الموت ورضى به واطمئنانا اليه، ومعنى ذلك أن روحك قد استطابت مقامها الجديد بعد نفور، ولكن حذار أن يذهب بك الظن إلى أنها قد ارتبطت بالجسد ارتباطا بلغ من القوة والمتانة حد الاندماج، بحيث إذا زال الجسد زالت الروح تبعاً له، كلا، إنما ترتبط الروح بالجسد ارتباطاً يقع بين القوة الشديدة والضعف الشديد، فلا هو إلى القوة التي تدمجها فيه ادماجاً، ولا هو الضعف الذي ييسر لها سبيل الفرار. ولكني لم أحدثك بعد عن علة كرهها لفراق الجسد، وقد جاءته مكرهة أول الأمر. أما ذلك فلأنها رأت أنها تستطيع أن تتخذ من هذا الجسد أداة للخير والفضيلة، لقد كانت في حياتها المطلقة الأولى خالية من الصفات الإيجابية جميعاً، وها هي ذي قد رأت في الحواس سبيلاً قومية تحصل بها من الأخلاق والعلم حظا موفوراً، وإذن فاتصالها بالجسد قد جعلها عارفةً بعد سذاجة وجهل، متحركةً بعد خمول وسكون، فهل تدهش بعد هذا إذا رأيت الروح جازعة فازعة حين يدنو منها الأجل المحتوم الذي يفصل بينها وبين زميلها انفصالاً ليس بعده من لقاء؟ وهل تعجب إذا رأيتها حين اتصالها بالجسد تدافع جهدها عنه لتدفع ما يتهدده من علة أو مرض، وتحرص وسعها أن يكون موفور الحظ من السلامة والعافية؟

أنِفَتْ وما أَنِسَتْ فلما واصلت ... ألِفَتْ مجاورةَ الخراب البلقع

إذن لقد هبطت الروح إلى هذا الهيكل معرضةً عنه مزدريةً له صلفاً منها وتيهاً، وحق لها ذلك، فهي خالدة لا تخضع للفناء، وهو وضيع يتعاوره الكون والفساد، لهذا أنفت منه ولم تأنس له بل استكبرت عليه وأبت أن تنزل بنفسها إلى حضيضه الأسفل، وظل النفور بينهما حيناً من الدهر لم يطل، حتى عرفت أنه أداة قويمة صالحة لتحصيل الفضيلة

<<  <  ج:
ص:  >  >>