للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والخير، عندئذ أنست به ورضيت بالإقامة معه في إخاء وائتلاف، وما هي ألا أن وضح أمامها الطريق وقام الدليل قاطعاً على أنها ستحقق بالجسد مرادها من الكمال، فقومت العلاقة واشتدت الملازمة على الرغم من علمها أن هذا الذي ترافقه وتزامله لن يلبث حتى ينقلب خراباً بلقعاً لا غناء فيه، إذ هو صائر إلى الفناء بعد حين يقصر أو يطول. ولعلك تلاحظ أن فيلسوفنا قد عبر هنا عن العلاقة بينهما بلفظ المجاورة قاصداً متعمداً، لأنه أراد أن تعلم أنها ليست من الجسد بمثابة الأبصار من العين مثلاً، يكادان يكونان شيئاً واحداً، ولكنهما منه كالملاح من سفينته يديرها ويدبر أمرها. ثم هو بعد يستطيع أن يستقل بوجوده بعيداً عنها، فهي علاقة تجاور لا علاقة وإدغام.

وأظنها نسيت عهوداً بالحِمى ... ومنازلاً بفراقها لم تقنع

نعم: لقد اطمأنت إلى الجسد بعد صدٍ ونفور، وأنست به بعد وحشة، وبلغ بها الاطمئنان والأنس حداً نسيت معه تلك العهود والمواثيق التي أخذت عليها أيام كانت في عالمها الرفيع السامي، وركنت إلى غير جنسها ركوناً لا تحب معه الفراق، وقد بلغ منها ذلك النسيان لمنازلها الأولى حد الغلو والإسراف، فهي لم تقنع بمجرد فراقها لعالمها الأول، بل زادت عليه عشقها للعالم الجديد، وهنا كأنما تحس من فيلسوفنا إشفاقاً على الروح أن تكون قد رضيت بالأدنى عن الأعلى لتغيرٍ في صفاتها وتحولٍ في إدراكها وفسادٍ في طبيعتها

حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها ... من ميم مركزها بذات الأجرع

علقت بها ثاءُ الثقيل فأصبحت ... بين المعالم والطلول الخُضَّع

يا ويح النفس! والله لكم أخشى أن تكون الروح قد مازجت المادة حتى فسدت عنصراً، فهي لم تكد تهبط من أبعد الذرى لتمس عالم المادة حتى علقت به وهو بعد لا يأتلف إلا من الخسيس الكثيف الذي يندر أن يكون سبيلاً إلى الكمال (ذات الأجرع هي المادة الأرضية الكثيفة أي البدن)، نعم، لم تكد تهبط الروح، وتدب في مادة الجسد حتى علقت بها هذه المادة الجثمانية وأحلتها بين أجزائها وطي ثناياها، بين معالم الجسد وأطلاله الخربة المتداعية. بين عظامه وغضاريفه ولحمه وشحمه، التي تخضع للفناء وتؤول للبطلان وتنقلب إلى الدثور. ولكن لعلها قد دبت بين أجزاء الجسد الفانية لا لتجري مجراها. ولكن لتستخدمها في تحصيل المعارف والفضائل.

<<  <  ج:
ص:  >  >>