تبكي إذا ذكرت عهوداً بالحمى ... بمدامع تهمي ولم تتقطع
لقد حم القضاء ووقعت الواقعة، فقد حان للروح حين فراقها وجاء أجلها، وها هي ذي قد فصلت عن رفيقتها وخلفته وراءها رماداً وتراباً، فهي إذا ما ألقت بنظرها إلى هذه الأوصال المفككة، والى هذا البيت المعمور، وقد دب فيه الخراب والدمار، عظم عليها الوجد وجل في عينها الخطب، وقد تتزاحم أمامها ذكريات الماضي أيام كانت تنعم بزمالة هذا البدن المحطوم في شتى ألوان النعيم، فتتفجع وتتوجع وتحزن وتأسى، فان كانت روحاً خيرة فاضلةً كانت فجيعتها أن افتقدت أداة الخير والفضيلة إذا افتقدت الجسد، وإن كانت روحاً شريرة خبيثة مستهترة كانت حسرتها أن سلبت وسيلة اللذة والمتاع - ألا وهي الجسد كذلك.
وتظل ساجعة على الدِّمن التي ... درست بتكرار الرياح الأربع
ولا تحسبن الروح بعد فراقها للجسد قد غفلت عنه وأنسيته بل أنها تتردد إليه الحين بعد الحين، فتقف بازائه باكية نادبة، وقد أبت قريحة الشاعر الفيلسوف إلا أن تصور الروح، وقد جاءت تنشد أطلال الجسد فتجد منه بقية باقية يهيج منظرها ما كان كامناً فيها من شجون، وإنما تعظم الحسرة إذا بقيت من منازل الأحباب آثارها لما تثيره في النفس من ألم وحنين، أما تلك الرياح الأربع التي ما فتئت تهب على مادة الجسد حتى درستها درساً، فيغلب أن تكون الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة التي لا تنفك، تعتور الصخور الصلدة حتى تفتتها هشيماً تذروه الرياح هنا وهناك، فتنطمس المعالم الأولى لك يا صديقي أن في هذا البيت تصريحاً من الفيلسوف بخلود الروح بعد الموت، فهي باقية خالدة تروح وتغدو، ويستحيل عليها التحلل والفناء.
إذ عاقها الشّرَكُ وصَدَّها ... قفصٌ عن الأوج الفسيح المِرْبَع
ولكن ليت شعري فيم بقاء الروح بين هذه الأطلال الدارسة باكيةً نادبةً، وماذا يعوقها أن تعلو وتصعد إلى حيث العقول المجردة في الملأ الرفيع؟ أليس في ذلك فكاك لها من شوائب المادة ونقائصها، وتحرير من قيود الحس وأصفاده الثقيلة الباهضة إلى حيث تسبح في تلك الأرجاء الفسيحة تتسرح فيها تسريحاً مطلقاً لا يصدها ضيق ولا تزاحم؟ لعمري إنها الدنيا التي تجتذبها كما يجتذب الشرك سوابح الطير الطليق بما يلقى فيه من حب، فهذه اللذة