شيئاً معرفة متقنة، فبذل ما بذل من صبر وجهد بذل الأمين الراعي لأمانته. مدرعاً بالأناة التي لا غنى عنها للذاهب مذهبه. راضياً بأن يزهق روحه في سبيل العلم وخدمته. ولكنه سالك فيه مسلكاً جديداً لا أثر فيه للتعاليم الدراسة، وللتقاليد التي لا تجدي شيئاً. وهو يمزج هذه الدراسة مع الفلسفة والفن ويجعل من هذا المزج مزجاً جديدا
يعتقد نيتشه بأن المثل (الكلاسيكي) سيبقى خالداً لا يهدده الفناء. فلا العلم ولا الخلق ولا التثقيف بمستطيعة أن تنقذنا من البربرية إذا سلخنا المثل الكلاسيكي، وكفرنا بالبساطة الشريفة التي تتجلى في الفن اليوناني والبراعة اليونانية. وإذا شاء رسل العلم أن يجحدوا هذه البراعة وينكرونها على اليونان، فإنها براعة سائدة خالدة مسيطرة على براعتنا، تدل على أن اليونان كانوا أكثر توفيقاً منا في حل مسائل الوجود
وهكذا تظهر مهنة (دارس علم اللغات) مهنة جميلة سامية هو لا يعنى بإحياء الآثار العافية، والنصوص البالية، ولكنه كادح دائب على إحياء روح اليونان القديمة، يريد أن يتفهم كيف قدر لهذه الروح أن تتسامى وتتعالى في الآثار التي تركتها، والفنون التي أنجبتها، والمؤثرات التي تركت تأثيرهم بادياً في أدبنا وفلسفتنا، فجعلت منهم أساتذة لا يزال الغرب يتلقن عنهم. هذا هو أدب نيتشه يوم دخل جامعة (بال) مدرساً. يقول في إحدى محاضراته (إن دراسة علم اللغات ليست بآلهة شعر ولا بنبية رحمة، لكنها رسولة الآلهة، والآلهة، والآلهة في القديم كانت تهبط على القرويين المحزونين. واليوم تهبط هذه الرسولة على عالمنا القاتم الألوان، المظلم الرسوم، المفعم بالآلام والشقاء الذي لا يشفى، حاملة إلينا بلسم العزاء، عارضة علينا بأحاديثها تلك الوجوه الجميلة المتألقة في قطر خصب أزرق سعيد)