تعرف الوقت الذي كان يحتاج فيه من تحجمه إلى إخراج الدم؟ قال: لا، قال: هل كنت تعرف مقدار ما يحتاج كل واحد منهم إلى أن يخرجه على قدر طبعه مما إذا زادت فيه أو نقصة منه ضر المحجوم؟ قال: لا، قال: فما أراك إلا أردت أن تتعلم الحجامة على أقفاء اليتامى والمساكين
قالوا وإنه من أجل هذا وأشباهه غلب عليه هذا اللقب (أبو العتاهية) وقد أخبر ميمون بن هارون عن بعض مشايخه قال: كني بأبي العتاهية أن كان يحب الشهرة والمجون والتعته. وأخبر محمد بن موسى بن حماد قال: قال المهدي يوماً لأبي العتاهية أنت إنسان متحذلق معته، فاستوت له من ذلك كنية غلبت عليه دون اسمه وكنيته وسارت له في الناس، قال: ويقال للرجل المتحذلق عتاهية، كما يقال للرجل الطويل شناجية، ويقال أبو عتاهية بإسقاط الألف واللام
ومن المحتمل عندي أن يكون تلقيته بذلك من أجل ابنه عتاهية الذي روينا عنه فيما سبق بعض أخبار أبيه، وأن تلك الأمور التي نسب إليه من أجلها هذا الحمق كان يتحامق بها لأغراض له فيها، وقد تحمل الأغراض بعض ذوي العقول على هذا التحامق فلا يكون لهم منه بد، كما قال الشافعي رحمه الله وقد جرى بينه وبين بعض من صحبه مجانة:
وأنزلني طولُ النوى دارَ غربة ... إذا شئت لاقيتُ امرأ لا أشاكلهْ
أحامقه حتى يقال سجية ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله
ويمكن أن يكون من تلك الأغراض التي حملت أبا العتاهية على ذلك اتقاء ما كان يدبر له من ضروب الكيد، ومحاولة الإيقاع به، وأخذه بتهمة الزندقة وما إليها، فان ظهوره بهذا المظهر يهون من أمره، ويجعله امرأ لا يخاف شره
ويؤيد هذا ما رواه أبو الفرج قال: أخبرني محمد بن الصولي قال: حدثنا أبو ذكوان قال: حدثنا العباس بن رستم قال: كان حمدويه صاحب الزنادقة قد أراد أن يأخذ أبا العتاهية ففزع من ذلك وقعد حجاماً
وإذا كان خوفه من حمدويه هو الذي حمله على أن يحترف هذه الحرفة التي ليست من شأنه، لا ما تظاهر به من إرادة تذليل نفسه، فيمكننا أن نحمل على ذلك كل تلك الحماقات التي تؤثر عنه، ونخرجها على ذلك التحامق الذي يقصد به مداراة أهل الظلم والحمق