فدلَّ هذا الحديث أن النصرة العملية ذنب، لكنها ليست كفراً وحدها؛ لأن ما وقع من حاطب نُصْرةٌ (وليس حُبًّا) ، ومع ذلك لم يكن ذلك منه كفراً؛ لأنه لم يكن عن تَمَنٍّ لنصرة دين الكفار على الإسلام.
ويدل على ذلك أيضاً حديث سهل بن بيضاء، «وهو أنه كان مسلماً بمكة يُخفي إسلامه، ثم إنه خرج مع المشركين ببدر، ووقع في الأسر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ينفلتن منهم أحدّ إلا بفداء أو ضربه عنق. فقال ابن مسعود: يا رسول الله، إلا سهل من بيضاء، فإني قد سمعته يذكر الإسلام فقال صلى الله عليه وسلم بعد سكتة: إلا سهل بن بيضاء»(١) .
المظهر الثاني: التطبيق الخاطئ للبراء من الكفّار.
وذلك كاستباحة دماء الذِّمّيين أو المعاهدين أو أموالهم، أو معاملتهم بغلظةٍ وعُنْف من دون سبب يُسوِّغُ ذلك؛ إلا ادّعاء أن هذا هو مقتضى (الولاء والبراء) . مع أن الرفق واللطف بهم هو المأمور به، بشرط أن لا يَدُلّ على عُلُوّ الكافر على المسلم (كما سبق) .
ولا شك أن تلك الأعمال (من استباحة الدماء والغلظة والعنف) ليست من (الولاء والبراء) في شيء، بل إن (البراءَ) منها براء!
وقد تقدَّمَ بيان سماحة عقيدة (الولاء والبراء) ، وعدم تعارضها مع ما أمرنا به الشارعُ من البر والإحسان بالكفار غير المحاربين، ومن العَدْل مع المحاربين.
وإنّما أُتي غلاةُ هذا المظهر من أحد أمرين، يرجعان كلاهما إلى ضعف فقه المسألة في قلوبهم، وهما:
(١) أخرجه الإمام أحمد (رقم ٣٦٣٢، ٣٦٣٣، ٣٦٣٤) ، والترمذي وحسنه (رقم ١٧١٤، ٣٠٨٤) ، والحاكم وصححه (٣ / ٢١-٢٢) . وهو من حديث أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، وهو لم يسمع من أبيه، لكنه كان عالماً بحديثه؛ لذلك جرى المحدثون على قبول حديثه عن أبيه، ما لم يأت بخبر منكر، وهذا ما قرّره ابن رجب في شرح العلل (١ / ٢٩٨) نقلاً عن علي بن المديني ويعقوب بن شيبة. وهذا ما يفسر تحسين الترمذي لحديثه هذا، مع تعليقه عليه بعدم سماعه من أبيه.