كثيرًا ما يسألون وفود القبائل التي تفد عليهم عن بعض شعرائها، وكانوا إذا اختلفوا في بيت من الشعر أبردوا بريدًا إلى العراق، يعني أرسلوا بريدا إلى العراق يسألون علماءها عن صحة ذلك البيت، وإن دل ذلك فإنما يدل على شدة حرصهم ودقة روايتهم، كما اهتموا بتأديب أبنائهم من خلال مؤدبين يروونهم أشعار الجاهلية وأيامها وأخبارها.
ومما ساعد على ازدهار الرواية في ذلك العصر أيضًا: ظهور طائفة القصاص، الذين كانوا يجلسون للعظة في المساجد الجامعة، وكانوا كثيرا ما يروون الأشعار وينثرونها للإفادة بما فيها في وعظهم، كما ظهرت جماعة في ذلك العصر أيضًا عنيت بغزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما قيل فيها من أشعار، ومن هؤلاء: أبان بن عثمان بن عفان وعروة بن الزبير، وهناك جماعة أخرى اهتمت بأخبار العرب الماضين، وما كان يجري على ألسنة شعرائهم، كل هؤلاء كانوا يستخدمون الرواية في حفظ هذا التراث وفي نقله إلى غيرهم، كما ظهرت طائفة أخرى من الرواة لم يكونوا يحسنون نظم الشعر، فهم لا يروونه لغرض تعلمه، وإنما يروونه لنشره بين الناس، وهؤلاء يشير إليهم جرير بقوله:
خروج بأفواه الرواة كأنها ... قَرَى هندواني إذا هُز صَمما
هذه هي وظيفتهم، يحفظون أشعار الشعراء، ويروونها وينشرونها بين الناس، هذا ديدنهم، كان ذلك في عصر بني أمية، وكما رأينا اتسع مجال الرواية، واتسع أصناف الرواة وتعددت غاياتهم المختلفة، وكلهم يعتمد على الرواية، أي الحفظ والنقل والاستظهار.
ثم جاء العصر العباسي، ونشأت طبقة من الرواة المحترفين، الذين يتخذون رواية الشعر عملًا أساسيًا لهم، فيهم عرب وفيهم موال، فيهم قراء للقرآن، وغير قراء، وهم جميعا حضريون، يعني كانوا يعيشون في البصرة والكوفة، وكانوا