العباسي بالذات؛ لأن العرب اختلطوا بالموالي وظهر اللحن، فكان هؤلاء الرواة يفضلون أن يذهبوا إلى هذه المناطق المعزولة نسبيا؛ حتى تكون اللغة لغة بعيدة وصحيحة وخالية من اللحن؛ ليأخذوا اللغة من أفواه الأعراب الذين لم تفش فيهم عجمة أو لحن، هذا هو المنهج الأول.
المنهج الثاني: فحص ما جمعه الرواة من نصوص فحصًا دقيقًا؛ لتوثيق مصدره ومتنه على أيدي خبراء ذوي بصر باللغة والشعر، فكشفوا عن زائفه ومنحوله، وميزوا الرواة الذين عرفوا بالضبط والثقة من الذين لم يعرفوا بهذا، مِن الذين اشتهروا بالوضع والنحل، فجرَّحوهم ونبهوا وأشاروا إليهم، ولم يكونوا يتهاونوا في ذلك على الإطلاق، ونحن نعلم أنه بمقدار تراث الأمة -كما قلت- وأهميته بالنسبة لهم يكون الاهتمام بهذا التراث رواية وتدوينًا وتمحيصًا، فكانوا جادين في عملهم، كانوا جادين في فحص الروايات، كانوا جادين في امتحان الرواة والتشدد في ذلك تشددًا واضحًا، وكانت نتيجة هذه الحركة النشطة أن وصل إلينا كم ضخم من هذا التراث، عكف عليه الدارسون كل يعمل في مجال تخصصه.
فاللغويون يستخلصون منه معجم ألفاظ اللغة، ويميزون قواعد نحوها من صرفها وضوابط شعرها، وخصائصها الأسلوبية والبيانية، وآخرون منهم اختصوا بدراسته وتحليله، فشرحوا ألفاظه وفسروا غريبه، واهتم غيرهم بتذوقه ونقده، كما اتجه آخرون إلى تراجم الشعراء وجمع المرويات عنهم.
وهكذا نحن الآن صرنا ضمن هؤلاء الباحثين، ننظر في هذا التراث ونبحث فيه؛ لنستكشف عوالمه، ونستنبط المقاييس الفنية، والأجناس الأدبية التي ابتكروها وتوصلوا إليها.