وما إن استكملت الحياة الثقافية في كل من مدينتي البصرة والكوفة، حتى اشتد التنافس بين علماء ورواة المدرستين في سبيل جمع وتدوين التراث العربي القديم، بدءوا يرحلون إلى البوادي، لكن ليس من أجل الحفظ فحسب، وإنما من أجل الحفظ للتدوين، وبخاصة حفظ الأشعار والشعر الجاهلي.
ومن علماء مدرسة البصرة الذين كان ذلك هدفهم: الأصمعي، الذي نقل الكثير عن فصحاء الأعراب الذين كانوا يفدون إلى البصرة، كما أكثر الخروج إلى البادية وشافه أهلها ونقل عنهم، ودون ما تجمع لديه، وله مجموعة شعرية منتقاة من الشعر الجاهلي سميت باسمه (الأصمعيات).
ومن رجال مدرسة الكوفة المبرزين في ذلك المجال: المفضل الضبي، وهو عربي صميم أسهم بشكل واضح في حركة التدوين، وقام بجمع كثير من أشعار العرب وأخبارهم، وتتلمذ على يديه مجموعة من العلماء والرواة منهم: أبو عمرو إسحاق الشيباني، وابن الأعرابي، والفراء، وأبو زيد القرشي، وغيرهم من أعلام اللغة والأدب، وخلال عملية البحث والتدوين هذه -التي أشرنا إليها- حرص هؤلاء العلماء على أن يلتزموا في عملهم هذا منهجًا محددًا، وقائمًا على أصول ثابتة، مما يجعلنا نطمئن لمنهجهم في جمع هذا التراث وتدوينه، ومدى الاهتمام به، ونثق في صحته وسلامة ما وصل إلينا منه عن طريق هؤلاء الرواة.
أقول هذا حتى لا يؤثر فينا ما نسمعه من كلام في مثل هذه القضية، وهي قضية نسبة الأشعار إلى غير أصحابها، أو ما يعرف بقضية الانتحال، هذا المنهج الذي حرص عليه هؤلاء العلماء منهج دقيق، يتلخص في نقطتين مهمتين؛ النقطة الأولى: تحديد مصادر هذا التراث وتعيين أماكن وجوده، كانوا يحددون المصدر أين يوجد، وفي أي مكان، ثم يشدون الرحال إلى هذه الأماكن، إلى تلك البوادي والمناطق المعزولة، نعم كانت معزولة نسبيا عن اختلاط اللغة في العصر