وباختصار، فإن هذا هو الذي يجعل المستشرق (جيب) يقول: إن (الذَّريَّة) هي خاصية الفكر الإسلاميّ، دون أن يقوم بالاحتراز الذي أوردناه.
ومع هذا الاحتراز، تمثِّل (الذَّرِّيَّة) معياراً ذا قيمة من حيث الدراسة المتعلقة بعلم الاجتماع للبلدان الإسلامية الراهنة؛ فهي تفسر لنا عدداً من مشاكلها، وخاصة منها نزعة (التكديس) التي أوردناها في المحاضرة الأولى؛ فنحن نعتقد أننا نبني إذ نقوم بالتكديس، كما لو كان (البناء) يمثل مرادفاً (لتكديس) المعدَّات والأشياء؟ ...
وحتى عالَم أفكارنا لا يمثل (بِناية) ولكن مجرد (كدس) من الأفكار. (فالذَّريَّة) أعني صعوبة أو استحالةَ إقامة بنْيَة عقلية، إنما تمثِّل الانعكاس البسيط لافتقار عالَمِنا النفسيِّ لِبُعْدٍ معيَّن هو: بُعدُ الفكرة.
وهذا هو الذي يفسِّر لنا كذلك: لماذا لم يَقُمْ (المصابون بالهوس الفكريِّ) من أعضاء الحكومة المؤقَّتة للجمهورية الجزائرية بالتفكير في مشكلة المفهوميَّة، التي يجب أن توضع على وجه الدِّقَّة ضمن الحدود التي كُنَّا بصدد الإشارة إليها. فالمفهومية ليست مجموع أفكارٍ شَتيتَة؛ وإنما هي المسَيِّرَةُ للطَّاقات، والسَّهْمُ الذي يُعَيَّنُ للجماعة طريقها في التاريخ.
إنَّها الاقْتِضاءُ الآمِرُ الذي يطبع الحركةَ على اليد وعلى الفكرة في اتِّجاه محدَّدٍ. ويتعيَّن على مفهوميتنا أن تُحَقِّقَ هذه التركيبة المتآلفة للنشاط الفرديِّ والجماعيِّ، على صعيد أرفع مُقايَسَة نظريَّة، وفي نطاق المِراسِ العمليِّ الأكثر شيوعاً سواء بسواء.
كما يتعين عليها علاوة على ذلك أن تصوغَ بَواعِثَنا المعَلِّلَة في أخْذِها بعين الاعتبار للشُّروط الدَّاخلية والخارجيَّة معاً.
ولقد سبق (لرسالة) شهدائنا أن وَجَدَتْ معناها في جميع النشاطات