ولكن هذا التوجيه العام، الذي يقرر ويحمي الحريات الفردية في كل اتجاه، يضع في الوقت نفسه الحدود اللازمة لهذه الحريات في حديث مشهور، إذ يقول عليه الصلاة والسلام كما رواه البخاري:«مثل القائم في حدود الله، والواقع فيها، كمثل قومٍ استهموا على سفينةٍ فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً. وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً».
فهذا الحدّ الموضوع لكل حريةٍ فرديةٍ في ظروفٍ معينة، يكون أساساً مهمّاً في التشريع الإسلامي، حيث تقدم فيها مصلحة المجتمع على مصلحة الأفراد. ولكن العمل يجري على أساس التخفيف الأدبي والمادي من حدة الاستثناء المسلط على حريات الفرد في مثل هذه الظروف. ومما يحكي بهذا الصدد:((أن امرأةً يهوديةً أرادت أن تحتفظ بملك لها يقع داخل الحدود التي عيّنها التخطيط لبناء مسجد عمر في بيت المقدس، فأراد القائم بالمشروع تنفيذ المخطط دون التفات إلى وجهة نظر المدعية، على اعتبار أسبقية المصلحة العامة، ولكن المدعية رفعت قضيتها إلى الخليفة الذي أوفاها رغبتها)) .. وربما كانت وجهة نظره مقررة على أساس أن بناء مسجد لا يكون مصلحة عامة بالنسبة إلى يهودية.
وهذه المعاملة في القضاء الإسلامي، تدخل أولاً في نطاق التقويم العام للإنسان، بصفته إنساناً وضع في طينته التكريم، بقطع النظر عن كونه رجلاً أو امرأةً، مسلماً أو يهودياً، ثم يحددها ما ورد في نطاق القضاء، في قوله عز وجل:{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}[النساء: ٤/ ٥٨].