الظروف النفسية الاجتماعية التي تتكون في مناخ معين، والأمر الجدير بالملاحظة أيضاً، هو أن مراكز الاهتمام للعقل تتغير من عصر إلى آخر، من حضارة إلى غيرها، حسب التغيرات التي تحدث في المناخ العقلي بالذات.
إننا نستطيع قطعاً ربط العلاقة، من الناحية التاريخية، بين عهد الصناعة والتصنيع واكتشاف دونيس بيبان الذي كان ينظر إلى غلاية ماء فوق النار، فلاحظ أن مغلقها يرتفع وينزل بالتوالي، فاكتشف هذا طاقة البخار بالصدفة.
ولكننا نلاحظ أن هذه الصدفة كانت تتكرر عبر الأجيال منذ اكتشاف النار، فلم تؤد إلى اكتشاف الطاقة البخارية إلى عهد بيبان.
لماذا؟ السبب في ذلك هو أن دونيس بيبان أو نظيره الإنجليزي وات كان يمارس ملاحظاته ويتفهمها ويفسرها في مناخ عقلي جديد، تكون في أوربا منذ قرنين من قبل، حين كتب ديكارت (خطابه) المشهور في المنهج وقال فيه هذه العبارات المتنبئة الموجهة:
((إنه لمن الممكن الوصول إلى معرفة تطبق تطبيقاً نافعاً في الحياة، بحيث تترك مدارس التعليم تلك الفلسفة السكولاستية، وتعلم فلسفة تقبل التطبيق، وتتيح لنا، بعد معرفة تأثير النار والهواء والأجرام الفلكية، والسماوات وكل الأجرام التي تحيطنا، أن نستخدمها تحت قانونها بالذات لمصلحتنا الخاصة بحيث نتمكن من امتلاك الطبيعة والهيمنة عليها)).
إن هذه العبارات ناصعة فعلاً، متنبئةً بما سيحدث بعد ديكارت من انقلابات علمية وتكنولوجية، فهي تدل بكل وضوح على المنحدر الذي سيتبعه الفكر الأوروبي في بحثه عن الحقيقة العلمية ذات النفع المباشر، وكان لزاماً أن يلتقي الفكر الأوروبي على هذا المنحدر مع الطاقة البخارية سواءً كان دونيس بيبان هو المكتشف أو غيره