الحالات نجد عناصر أخرى تحدّ من عواملها وتخفف من شدتها، وهي العناصر التي نمت في الضمير الإسلامي مع البذور التي بذرها فيه القرآن، إننا نرى فعلاً كيف بدأ المناخ العقلي الجديد يتكون منذ بداية الوحي.
بينما ينفتح كتاب العهد القديم، منذ السطر الأول في سفر التكوين، على عالم الظاهرات المادية، وينفتح كتاب العهد الجديد في إنجيل يوحنه، على عملية التجسيد، ينفتح القرآن على الجانب العقلي:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ... }[العلق ٩٦/ ١].
اقرأ ... هذه هي الكلمة الأولى التي تفتح إليها أول ضمير إسلامي، ضمير محمد، ويتفتح لها بعده كل ضمير مسلم.
إن الحروف هي حقاً أداة لنقل الروح، لكل رسالةٍ، ولكل بلاغ، فهي الحامل والرمز لكل معلومةٍ من المعلومات، فأول ما نزل به القرآن يشير إلى أهميتها، ويخصص موضوعها بالذكر، ويرسم في الضمير الإسلامي قيمتها منذ اللحظة الأولى في كلمة اقرأ.
إن الحرف ينقل ويبلغ الروح، وفي نفس الوقت يحفظه من الضياع، وسيحفظ أولاً وقبل كل شيء القرآن نفسه، ذلك الكتاب الذي لم يتغير فيه حرفٌ واحدٌ منذ أربعة عشر قرناً، على خلاف كل الكتب الأخرى، من العهد القديم إلى العهد الجديد، حيث لم يبق فيها، من ناحية صحتها التاريخية، إلا القيمة الرمزية، التي يحترمها النقد الحديث، دون أن يعتمدها من الناحية العلمية.
وليست هذه الميزة إلا النتيجة العلمية الأولى، لهذا الفكر الجديد الذي ظهر في المناخ القرآني، ذلك المناخ الذي تدشن بالضبط يوم قام المجتمع الإسلامى الناشئ، أيام سيدنا عثمان، بجمع الآي الكريمة لحفظها من التلف، ولحصرها