للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

البخارية، أو ابتداء من آلة الطباعة، تُعَدُّ وقائع حضارة. كما أن جميع الأسباب التي تُنْتِجُ هذه الوقائع، وجميع ظروف تكوينها ناجمة عن نفس السبب العام، وعن نفس الظرف الرئيسيِّ، اللذين هما بكلمة واحدة: حضارة أوروبا التي تعدُّ الرّحِم الحقيقيَّ لكل جزئيَّة من تفاصيل النموِّ الأخلاقي والاجتاعي للإنسان المنتمي إلى مساحتها.

ومن ثَمَّ فالحضارة هي التي تمنح إذن للمجتمع مع هذه القدرة الاقتصادية التي تميِّزه بخاصيتها كمجتمع نام، إرادة استخدام هذه القدرة في حلّ جميع المشاكل، وخاصة المشاكل التي تواجه المجتمع المتخلِّف بمدىً أشدُّ من القسوة. كما أن الحضارة هي التي تشكل هذه القدرة وهذه الإرادة اللَّتَين لا تقبلان الانفصال عن وظيفة المجتمع النَّامي، داخل المساحة الخاصة به، في إشعاعه الثقافي، والاقتصادي وحتَّى في تَوَسُّعه السياسيِّ أو الإمبرياليِّ كذلك.

ولهذا يجب علينا الآن أن نَتَثَبَّتَ من أمر تعريف الحضارة الذي سبق لنا اقراحه فيما سلف من وجهة نظر متعلقة بعلم الإنسان، وهي الوجهة التي لا نريد تناول الموضوع من زاويتها؛ لأن الحضارة يجب أن تحدَّد من وجهة نظر وظيفيَّة: فهي مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيحُ لمجتمع معين أن يقدِّم لكل فرد من أفراده، في كل طور من أطوار وجوده، منذ الطفولة إلى الشيخوخة، المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموِّه. فالمدرسة، والمعمل، والمستشفى، ونظام شبكة المواصلات، والأمن في جميع صوره عبر سائر تراب القطر، واحترام شخصية الفرد، تمثل جميعُها أشكالاً مختلفة للمساعدة التي يريد ويقدر المجتمع المتحضِّر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه.

ولكن إذا كانت هذه الإرادة ملازمة لجوهر الحضارة ذاته، ومتضمِّنة في معطياتها الأصلية، في شكل إحسان، أو صدقة، أو زكاة إلخ ... مثلاً، فإن قدرتها تتشكل بصورة تدريجيَّة، لأنها لا تَكون في البداية سوى معطى مُضْمَر.

<<  <   >  >>