فالمجتمع النامي الراهن، أي المجتمع الغربي ضمن حدوده الحاضرة، أعني مع المجتمعات التي استوحت نموذَجَه، لم يكن منذ بضعة قرون مضت سوى معطى مُضْمَر في ذاتيَّة مجتمع القرون الوسطى المسيحيِّ؛ فإرادة هذا المجتمع كانت تحمل بذرة قدرة المجتمع الأوَّل.
ولهذا فنحن عندى ما نريد أن نضع أصلَ النموِّ الاقتصادي للحضارة الراهنة موضعه، لا يتعين علينا أن نضع هذا الاختراع أو ذاك- من مثل الآلة البخارية، ونَوْل (جكار)(جـ)، والبوصلة، وآلة الطباعة- باعتباره مصدراً لذلك الأصل، ولكن جميع الظروف التاريخيَّة التي تَخَلَّقَتْ فيها بذورُ كلِّ الأفكار، وكل ضروب الخلق والإنشاء، وكل إنتاجات هذه الحضارة.
فجميع ضروب الخلق هذه، لا تقبل التصور إلا ضمن الشروط العامة لحضارة معينة، وليس ضمن أبعاد عبقرية إنسان مفرد، ولا حتَّى بضع مئات من العباقرة ة فأمثال: غاليليه ( Galilée) ، وليونارد دي فانشي ( Léonard de Vinci) ، وميكال آنج ( Michel-Ange) ، ودانتي ( Dante) ، ومن لفَّ لَفَّهُم، ليسوا هم الذين صنعوا النهضة، ولكن شروط هذه الأخيرة هي التي صنعتهم.
وههنا يكون من الملائم أن نتوقف عند خلاصة ذات أهمية نظرية وعملية بالنسبة إلى بلاد كالجزائر جنَّدتْها مشاكلُ التخلُّف؛ فإبداع شيء ما، أو إنشاؤُه، أو اكتشافه، لا يسبق الظروف العامة التي تصبح فيها العبقرية البشرية منتجة ضمن مساحة محدَّدة، ولكنه يتلو هذه الظروف. ذلك أن اطرادات التاريخ لا تقبل النكوص على أعقابها، وبعبارة أخرى فالزمن لا يدور في حلقة مغلقة.
(جـ) جوريف - ماري جكار ( Joseph - Marie Jacquard) : ميكانيكي فرنسي، ولد في ليون ( Lyon) (١٧٥٢ م- ١٨٣٤م)، مخترع نَوْل النَّسيج الذي يحمل اسمه: ( Métier à la Jacquard) .