اليوم، والتي نتخذ منها موضوعاً لمحاضرتنا الثانية. فهذه المشكلة لا تواجهنا ألبتة في دائرة المجرَّدات، أي في: المسرح، أو السينما، أو مكتب عمل أحد الروائيِّين، أو في أسلوب إحدى الرقصات الفلكلورية، ولكنها تطرح أمامنا في العالم العَيْنِيِّ الملموس لعملنا اليومي، في إحدى حظائر البناء، أو في حقل نقوم بزراعته، أو في المدرسة حيث نرسل بأطفالنا لتلقي المعرفة، وفي الطرقات التي نعبر بها، والقاطرات التي ننتقل بواسطتها، وأخيراً في كل مكان يوجد فيه شكل من أشكال حياتنا ونشاطاتنا اليدوية أو الذهنية. فالقضية تقوم بالنسبة إلينا ليس في مجرد إعطاء مضمون معين لأوقات فراغنا فحسب، ولكن في إعطاء هذا المحتوى لوجوه نشاطنا الأساسية أولاً وبالذات. وبكلمة واحدة فإن موضوعنا لا يقتصر على نطاق معين فحسب، ولكنه يتعلق بالإطار الاجتماعي كله، حيث تدور حياتنا، وتتساوق نشاطاتنا، وتتشكل المشكلات العديدة التي تستحوذ على أفكارنا تحت اسم (التخلُّف).
وهكذا فنحن عندما نطرح هذا السؤال:(ما هي الثقافة؟)، فإننا لا نجد فكرنا حرّاً، ولكننا نراه محاطاً بكل تلك المشاكل. ومعلوم أن هذا السؤال ليس له المعنى نفسه، عندما يتعلق الأمر بمجرد اهتمام ذهني- له علاقة بجمع الوثائق أو بالناحية العلمية- وعندما يتعلق غرضه بمصلحة اجتماعية أساسية. ففي الحالة الأُولى نواجه مجرد مشكلة تصوّر لواقعٍ اجتماعيٍّ قائم، وفي الحالة الثانية تتمثل المسألة في موقف يُطلَبُ إلينا اتِّخاذه لمواجهة فراغ اجتماعي معين. ذلك أنه توجد بالتأكيد، ومهما تكن وجهة نظر بعض أصدقائنا حيال هذا الموضوع، نوعية خاصة بالمشكلة المطروحة أمامنا دون هوادة، منذ اللحظة الأُولى لصياغتها، كما أنها تزداد مواجهة لنا مع كل خطوة من سيرنا. ومنذ الخطوة الأُولى نجد أنفسنا إزاء طريقَيْن اثنَيْن: ففي الطريق الأول تقوم المسألة في إعداد التقويم الفعليِّ لثقافة معينة سبق إعدادها من قبل، كالحضارة بأثينا أو في إمبراطورية روما.