قلت: وقولهن " الملعون فاعله " يشير إلى حديث ابن عباس الذي بينت ضعفه فيما سبق (ص ٤٣) فتنبه
ومنه قول الشاعر:
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب
فأين القبور من عهد عاد؟
خفف الوطأ ما أظن اديم
الأرض إلا من هذه الأجساد
سر إن استطعت في الهواء رويدا
لا اختيالا على رفات العباد
ومن البين الواضح أن القبر إذا لم يكن ظاهرا غير معروفا مكانه فلا يترتب من وراء ذلك مفسدة كما هو مشاهد حيث ترى الوثنيات والشركيات إنما تقع عند القبور المشرفة حتى ولو كانت مزورة لا عند القبور المندرسة ولو كانت حقيقة فالحكمة تقتضي التفريق بين النوعين وهذا ما جاءت به الشريعة كما بينا سابقا فلا يجوز التسوية بينهما والله المستعان
الجواب عن الشبهة الخامسة:
أما بناء أبي جندل رضي الله عن هـ مسجدا على قبر أبي بصير رضي الله عن هـ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فشبهة لا تساوي حكايتها ولولا أن بعض ذوي الأهواء من المعاصرين اتكأ عليها في رد تلك الأحاديث المحكمة لما سمحت لنفسي أن أسود الصفحات في سبيل الجواب عنها وبينا بطلانها والكلام عليها من وجهين:
الأول: رد ثبوت البناء المزعوم من أصله لأنه ليس له إسناد تقوم الحجة به ولم يروه أصحاب " الصحاح " و " السنن " و " المسانيد " وغيرهم وإنما أورده ابن عبد البر في ترجمة أبي بصير من " الاستيعاب " (٤ / ٢١٢٣) مرسلا فقال:
وله قصة في المغازي عجيبة ذكرها ابن إسحاق وغيره وقد رواها معمر عن ابن شهاب. ذكر عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب في قصة عام الحديبية قال:
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلت قريش في طلبه رجلين فقالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
العهد الذي جعلت لنا أن ترد إلينا كل من جاءك مسلما. فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجلين فخرجا حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيد يا فلان فاستله الآخر وقال: أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت فقال له أبو بصير أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه حتى برد وفر الاخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد بعده فقال له النبي صلى الله عليه وسلم حين رآه: لقد رأى هذا ذعرا فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول. فجاء أبو بصير فقال يا رسول الله قد والله وفى الله ذمتك: قد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم
ويل امه مسعر جرب لو كان معه أحد " فلما سمع ذلك علم أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر قال: وانفلت منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي بصير. . . وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر في أبي بصير بأتم ألفاظا وأكمل سياقا قال:. . . وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير ليقدما عليه ومن معهما من المسلمين فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي جندل وأبو بصير يموت فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يقرؤه فدفنه أبو جندل مكانه وصلى عليه وبنى على قبر مسجدا "
قلت: فأنت ترى أن هذه القصة مدارها على الزهري فهي مرسلة على اعتبار انه تابعي صغير سمع من أنس بن مالك رضي الله عن هـ وإلا فهي معضلة وكيف ما كان الأمر فلا تقوم بها حجة على أن موضع الشاهد منها وهو قوله: " وبنى على قبره مسجدا " لا يظهر من سياق ابن عبد البر للقصة أنه من مرسل الزهري ولا من رواية عبد الرزاق عن معمر عنه بل هو من رواية موسى بن عقبة كما صرح به ابن عبد البر لم يجاوزه وابن عقبة لم يسمع أحدا من الصحابة فهذه الزيادة أعني قوله " وبنى على قبره مسجدا " معضلة (٨٠) بل هي عندي منكرة لأن القصة رواها البخاري في " صحيحة " (٥ / ٣٥١٣٧١) وأحمد في " مسنده " (٤ / ٣٢٨٣٣١) موصولة من طريق عبد الرزاق عن معمر قال: أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بها دون هذه الزيادة وكذلك أوردها ابن إسحاق في " السيرة " عن الزهري مرسلا كما في " مختصر السيرة " لابن هشام (٣ / ٣٣١٣٣٩) ووصله أحمد (٤ / ٣٢٣٣٢٦) من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عروة به مثل رواية معمر وأتم وليس فيها هذه الزيادة وكذلك رواه ابن جرير في تاريخه (٣ / ٢٧١٢٨٥) من طريق معمر وابن إسحاق وغيرهما عن الزهري به دون هذه الزيادة فدل ذلك كله على أنها زيادة منكرة لإعضالها عدم رواية الثقات لها. والله الموفق
الوجه الثاني: أن ذلك لو صح لم يجز أن ترد به الأحاديث الصريحة في تحريم بناء المساجد على القبور لأمرين:
أولا: أنه ليس في القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقره
ثانيا: أنه لو فرضنا أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك وأقره فيجب أن يحمل ذلك على أنه قبل التحريم لأن الأحاديث صريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ذلك في آخر حياته كما سبق فلا يجوز أن يترك النص المتأخر من أجل النص المتقدم على فرض صحته عند التعارض وهذا بين لا يخفى نسأل الله تعالى أن يحمينا من اتباع الهوى
الجواب عن الشبهة السادسة
وهي الزعم بأن المنع إنما كان لعلة وهي خشية الافتتان بالمقبور وقد زالت فزال المنع
لا أعلم أحدا من العلماء ذهب إلى القول بهذه الشبهة إلا مؤلف " إحياء المقبور " فإنه تمسك بها وجعلها عمدته في رد تلك الآحاديث المتقدمة واتفاق الأمة عليها فقال ما نصه (ص ٨١ ١٩) :
(٨٠) - ولا تغتر أيها القارئ بما فعله هنا مؤلف " إحياء المقبور " فإنه ساق (ص ٤٤) القصة التي أوردناها في الأعلى من طريق ابن عبد البر غير أن المؤلف حذف من كلامه " وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر " ووصل رواية عبد الرزاق عن الزهري برواية موسى بن عقبة حتى صارتا كأنهما رواية واحدة وبدا للناظر في سياقه أن القصة بناء المسجد على القبر هي من رواية عبد الرزاق عن الزهري وإنما هي من رواية موسى بن عقبة بدون إسناد