ومن يدري كم يتعجب رجال الاستقبال من تَرَقِّي العلوم في هذا العصر ترقِّياً مقروناً باشتداد هذه المصيبة التي لا تترك محلاً لاستغراب إطاعة المصريين للفراعنة في بناء الأهرامات سخرة؛ لأنَّ تلك لا تتجاوز التّعب وضياع الأوقات، وأمّا الجندية فتُفسد أخلاق الأمّة؛ حيثُ تُعلِّمها الشّراسة والطّاعة العمياء والاتِّكال، وتُميت النّشاط وفكرة الاستقلال، وتُكلِّف الأمّة الإنفاق الذي لا يطاق؛ وكُلُّ ذلك منصرف لتأييد الاستبداد المشؤوم: استبداد الحكومات القائدة لتلك القوَّة من جهة، واستبداد الأمم بعضها على بعض من جهة أخرى.
ولنرجع لأصل البحث فأقول: لا يُعهد في تاريخ الحكومات المدنية استمرار حكومة مسؤولة مدَّة أكثر من نصف قرن إلى غاية قرن ونصف، وما شذَّ من ذلك سوى الحكومة الحاضرة في إنكلترا، والسّبب يقظة الإنكليز الذين لا يُسكرهم انتصار، ولا يُخملهم انكسار، فلا يغفلون لحظة عن مراقبة ملوكهم، حتَّى أنَّ الوزارة هي تنتخب للملك خَدَمَهُ وحَشَمَهُ فضلاً عن الزّوجة والصّهر، وملوك الإنكليز الذين فقدوا منذ قرون كلَّ شيء ما عدا التّاج، لو تسنّى الآن لأحدهم الاستبداد لَغَنِمَهُ حالاً، ولكنْ؛ هيهات أنْ يظفر بغرة من قومه يستلم فيها زمام الجيش.
أمّا الحكومات البدويّة التي تتألَّف رعيتها كلّها أو أكثرها من عشائر يقطنون البادية، يسهل عليهم الرّحيل والتَّفرّق متى مسَّتْ حكومتُهم حرّيّتهم الشّخصية، وسامتْهم ضيماً، ولم يقووا على الاستنصاف؛ فهذه الحكومات قلّما اندفعت إلى الاستبداد. وأقرب مثال لذلك أهل جزيرة العرب، فإنَّهم لا يكادون يعرفون