من الحِكَم البالغة للمتأخرين قولهم:"الاستبداد أصلٌ لكلِّ داء"، ومبنى ذلك أنَّ الباحث المدقق في أحوال البشر وطبائع الاجتماع كشف أنَّ للاستبداد أثراً سيئاً في كلِّ واد، وقد سبق أنَّ الاستبداد يضغط على العقل فيفسده، وإني الآن أبحث في أنَّه كيف يُغالب الاستبداد المجد فيفسده، ويقيم مقامه التمجُّد.
المجد: هو إحراز المرء مقام حبٍّ واحترام في القلوب، وهو مطلب طبيعي شريف لكلِّ إنسان، لا يترفَّع عنه نبيٌّ أو زاهد، ولا ينحطُّ عنه دنيٌّ أو خامل. للمجد لذَّةٌ روحية تقارب لذَّة العبادة عند الفانين في الله تعالى، وتعادل لذَّة العلم عند الحكماء، وتربو على لذَّة امتلاك الأرض مع قمرها عند الأمراء، وتزيد على لذَّة مفاجأة الإثراء عند الفقراء. ولذا؛ يزاحم المجد في النفوس منزلة الحياة.
وقد أشكَلَ على بعض الباحثين أيّ الحرصين أقوى؟ حرص الحياة أم حرص المجد؟ والحقيقة التي عوَّل عليها المتأخِّرون وميَّزوا بها تخليط ابن خلدون هي التفضيل؛ وذلك أنَّ المجد مفضَّل على الحياة عند الملوك والقُوَّاد وظيفةً،