قرر الأخلاقيون أنَّ الإنسان لا يكون حراً تماماً ما لم تكن له صنعة مستقلٌّ فيها؛ أي غير مرؤوس لأحد، لأن حريته الشخصية تكون تابعة لارتباطه بالرؤساء. وعليه تكون أقبح الوظائف هي وظائف الحكومة. وقالوا: إنَّ للصنعة تأثيراً في الأخلاق والأميال، وهي من أصدق ما يُستَدلُّ به على أحوال الأفراد والأقوام. فالموظفون في الحكومة مثلاً يفقدون الشفقة والعواطف العالية تبعاً لصنعتهم التي من مقتضاها عدم الشعور بتبعة أعمالهم، وقال الحكماء: إنَّ العاجز يجمع المال بالتقتير، والكريم يجمعه بالكسب، وقالوا: إنَّ أقل كسب يرضى به العاقل ما يكفي معاشه باقتصاد، وقالوا: خير المال ما يكفي صاحبه ذلّ القلة وطغيان الكثرة. وهذا معنى الحديث (فاز المخففون) وحديث (اسألوا الله الكفاف من الرزق). ويُقال: الغنى غنى القلب، والغني من قلَّت حاجته، والغني من استغنى عن الناس. وقال بعض الحكماء: كلُّ إنسانٍ فقير بالطبع ينقصه مثل ما يملك، فمن يملك عشرة يرى نفسه محتاجاً لعشرة أخرى، ومن يملك ألفاً يرى نفسه محتاجاً لألفٍ أخرى. وهذا معنى الحديث:(لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب أحبَّ أن يكون له واديان).
ولا يقصد الأخلاقيون من التزهيد في المال التثبيط عن كسبه، إنما يقصدون أن لا يتجاوز كسبه بالطرائق الطبيعية الشريفة. أما السياسيون فلا يهمهم إلا أن تستغني الرعية بأي وسيلة كانت، والغربيون منهم يُعينون الأمة على الكسب ليشاركوها، والشرقيون لا يفتكرون في غير سلب الموجود، وهذه من جملة الفروق بين الاستبدادين الغربي والشرقي، التي منها أنَّ الاستبداد