ولا غرابة في تحكُّم الاستبداد على الحقائق في أفكار البسطاء، إنما الغريب إغفاله كثيراً من العقلاء، ومنهم جمهور المؤرِّخين الذين يُسمّون الفاتحين الغالبين بالرِّجال العظام، وينظرون إليهم نظر الإجلال والاحترام لمجرّد أنَّهم كانوا أكثر في قتل الإنسان، وأسرفوا في تخريب العمران. ومن هذا القبيل في الغرابة إعلاء المؤرِّخين قدر من جاروا المستبدين، وحازوا القبول والوجاهة عند الظالمين. وكذلك افتخار الأخلاق بأسلافهم المجرمين الذين كانوا من هؤلاء الأعوان الأشرار.
وقد يظنُّ بعض الناس أنَّ للاستبداد حسناتٍ مفقودة في الإدارة الحرّة، فيقولون مثلاً: الاستبداد يليّن الطباع ويلطِّفها، والحقُّ أنَّ ذلك يحصل فيه عن فقد الشهامة لا عن فقد الشراسة. ويقولون: الاستبداد يُعلِّم الصغير الجاهل حسن الطاعة والانقياد للكبير الخبر، والحقُّ أنَّ هذا فيه عن خوف وجبانة لا عن اختيارٍ وإذعان. ويقولون: هو يربّي النفوس على الاعتدال والوقوف عند الحدود، والحقُّ أنْ ليس هناك غير انكماشٍ وتقهقر. ويقولون: الاستبداد يقلل الفسق والفجور، والحقُّ أنَّه عن فقر وعجر، لا عن عفّةٍ أو دين. ويقولون: هو يقلل التعديات والجرائم، والحقُّ أنَّه يمنع ظهورها ويخفيها، فيقلُّ تعديدها لا عدادها.