للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

المَوَاقِعِ الحَرْبِيَّةِ، وَتَنْظِيمِ الصُّفُوفِ فِي المَوْقَِعَةِ الوَاحِدَةِ، وَالكُمُونِ وَالفَرِّ، وَاخْتِيَارِ أَمَاكِنَ النُّزُولِ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ مِمَّا يَعْتَمِدُ عَلَى وَحْيٍ الظُّرُوفِ وَالدُّرْبَةِ الخَاصَّةِ.

وَكُلُّ مَا نُقِلَ مِنْ هَذِهِ الأَنْوَاعِ الثَّلاَثَةِ لَيْسَ شَرْعًا يَتَعَلَّقُ بِهِ طَلَبُ الفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشُّؤُونِ البَشَرِيَّةِ التِي لَيْسَ مَسْلَكَ الرَّسُولِ فِيهَا تَشْرِيعًا وَلاَ مَصْدَرٌ تَشْرِيعِ» (٢١).

ثم يقول:

«وَمِنْ هُنَا نَجِدُ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّا نُقِلَ عَنْهُ صُوِّرَ بِأَنَّهُ شَرْعٌ أَوْ دِينٌ أَوْ سُنَّةٌ أَوْ مَنْدُوبٌ، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ فِي الحَقِيقَةِ صَادِرًا عَلَى وَجْه التَشْرِيعِ أَصْلاً، وَقَدْ كَثُرَ ذَلِكَ فِي الأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ عَنْهُ بِصِفَتِهِ البَشَرِيَّةِ، أَوْ بِصِفَةِ العَادَةِ وَالتَّجَارِبِ» (٢٢).

فالشيخ شلتوت ينفي التشريع بأحكامه الأربعة [الوجوب والندب والحرمة والكراهة] عن جميع أقواله وأفعاله وتقريراته - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الواردة في هذه الأمور الثلاثة، إذ يقول: «وَكُلُّ مَا نُقِلَ مِنْ هَذِهِ الأَنْوَاعِ الثَّلاَثَةِ لَيْسَ شَرْعًا يَتَعَلَّقُ بِهِ طَلَبُ الفِعْلِ وَالتَّرْكِ».

وينفي تشريع حكم الإباحة في هذه الأمور الثلاثة، إذ يقول: «وَإِنَّمَا هُوَ - أَيْ مَا نُقِلَ - مِنَ الشُّؤُونِ البَشَرِيَّةِ التِي لَيْسَ مَسْلَكَ الرَّسُولِ فِيهَا تَشْرِيعًا وَلاَ مَصْدَرَ تَشْرِيعٍ».

وأبرز ما في هذه الأمور الثلاثة، وأكثرها وُرُودًا ما سبيله سبيل الحاجة البشرية وأبرز هذا النوع ما يتعلق بالأكل والشرب، وَلِهَذَا سَنَكْتَفِي بِالرَدِّ عَلَيْهِ بِشَأْنِهِمَا.

يقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (٢٣).

وَيَقُولُ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَكُُلْ»، قََالَ عَدِيٌّ: «فَإِنْ أَكَلَ؟» قََالَ: «فَلاَ تَأْكُلْ، فَإِنَّهُ لَمْ يُمْسِكْ عَلَيْكَ، إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ». قََالَ عَدِيٌّ: «أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ؟». قَالَ: «لاَ تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى آخَرَ» (٢٤).

فهل قول الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا لَيْسَ تَشْرِيعًا؟ وَلَيْسَ بَيَانًا للناس ما أنزل إليهم؟ وَلَيْسَ تَحْرِيمًا وَلاَ تَحْلِيلاً؟ ويقول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} (٢٥). ويقول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البحر: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ» (٢٦) فمن الذي أَحَلَّ السَّمَكَ المَيِّتَ؟ أليس رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟


(٢١) " الإسلام عقيدة وشريعة ": ص ٥٠٨ وما بعدها - نشر مكتبة وهبة بالقاهرة ١٩٨٥ م.
(٢٢) المصدر السابق.
(٢٣) [سورة المائدة، الآية: ٤].
(٢٤) أخرجه البخاري - كتاب الذبائح - باب صيد المعراض.
(٢٥) [سورة المائدة، الآية: ٣].
(٢٦) أخرجه أصحاب السُنن وَصَحَّحَهُ ابن خُزيمة وابن حبان. أبو داود / كتاب الطهارة - باب الوضوء بماء البحر.

<<  <   >  >>