للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

٦٤١٧ - عائشة: لم أعقل أبوىَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يومٌ إلا يأتينا فيه رسول - صلى الله عليه وسلم - بكرةً وعشيةً، فلما ابتُلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجرًا نحو الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟

قال: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي فقال: إن مثلك لا يخرج ولا يخرج؛ إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جارٌ فارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف في أشراف قريشٍ فقال لهم: أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟

فأنفذت قريشٌ جواره وقالوا له: مر أبا بكرٍ فليعبد ربه في داره وليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكرٍ فلبث يعبد ربه في داره، ثم بدا له فابتنى مسجدًا بفناء داره وكان يُصلي فيه، فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم (وهم) (١) يعجبون منه، وكان رجلاً بكاءً إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك كفار قريشٍ فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا: إنا كنَّا أجرنا أبا بكرٍ بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدًا وأعلن فيه، فأته، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى فاسأله أن يرد إليك ذمتك، فأتاه فقال قد علمت الذي عاقدتُ لك عليه، فإما أن تقتصر عليه، وإما

⦗٥٤٩⦘ أن ترد لي ذمتي، فقال أبو بكر: إني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله.

والنبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ بمكة، فقال - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين: ((إني أريت دار هجرتكم سبخةً ذات نخل بين لابتين)) فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان بالحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال له - صلى الله عليه وسلم -: ((على رسلك إني أرجو أن يؤذن لي)) قال أبو بكرٍ: وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟

قال: ((نعم)) فحبس أبو بكرٍ نفسه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلف راحلتين من ورق السَّمر وهو الخبط أربعة أشهرٍ، فبينا نحن يومًا جلوسٌ في بيت أبي بكرٍ في نحر الظهيرة، قال قائلٌ لأبي بكرٍ: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقنعًا في ساعةٍ لم يكن يأتينا فيها، قال أبو بكر: فداءٌ له أبي وأمي، والله ما جاء به هذه الساعة إلا أمرٌ، فجاءنا فاستأذن فأذن له فدخل، فقال لأبي بكرٍ: ((أخرج من عندك)

قال أبو بكرٍ: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله قال: ((فإني قد أذن لي في الخروج)) قال أبو بكرٍ: الصحابة يا رسول الله؟

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم)) قال أبو بكر: فخذ إحدى راحلتيَّ هاتين، فقال - صلى الله عليه وسلم - ((بالثمن)) فجهزناهما أحب الجهاز ووضعنا لهما سفرةً في جرابٍ، فقطعت أسماء من نطاقها فربطت به فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاق.

ثمَّ لحق - صلى الله عليه وسلم - أبو بكرٍ بغارٍ في جبل ثورٍ، فمكثا فيه ثلاث ليالٍ، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكرٍ، وهو غلامٌ شاب ثقف لقنٌ، يدلجُ من عندهما بسحرٍ فيصبح بمكة كبائتٍ، فلا يسمع أمرًا يكادان به إلا أتاهما بخبره حين يختلط الظلامُ، ويرعى عليها عامر بن فهيرة مولى أبي بكرٍ منحةً من غنمٍ فيريحها عليهما حين تذهب ساعةً من العشاء، فيبتان في رسلٍ، فاستأجر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكرٍ رجلاً من بني الديل هاديًا خريتًا، وقد غمس حلفا من آل العاص ابن وائلٍ، وهو على دين قريشٍ، أمَّناه فدفعا إليه

⦗٥٥٠⦘ راحلتيهما وواعداه غار ثورٍ بعد ثلاثٍ، فأتاهما، فارتحلا ومعهما عامرُ بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق الساحل، قال ابن شهابٍ: أخبرني عبد الرحمن بن مالكٍ عن أبيه عن سراقة بن جعشم قال: جاءنا رسلُ قريشٍ يجعلون في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكرٍ ديةً، كلُ واحدٍ منهما لمن قتله أو أسره، فبينا أنا جالسٌ في قومي بني مدلجٍ أقبل رجلٌ منهم فقال: يا سراقة إني رأيت أسودةً بالساحل أراها محمدًا وأصحابه فعرفت أنهم هم، فقلت: إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعةً، ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي فتحبسها علىَ، فأخذت رمحي فخرجت من ظهر البيت فخططت بزجه الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت فاستخرجت الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا؟

فخرج الذي أكره فركبت فرسي وعصيتُ الأزلام تقرب بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يلتفتُ وأبو بكرٍ يُكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررتُ عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمةً إذا لأثر يديها عثانٌ ساطعٌ في السماء مثل الدخان، فاستقسمتُ بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم الأمان، فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم فوقع في نفسي حين حُبست عنهم أن سيظهر أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت له: إنَّ قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم بما يريد الناس بهم، فعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني إلا أن قالا: أخف عنَّا ما استطعت، فسألته أن يكتب لي كتاب أمنٍ فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي رقعةً من أدم ومضى - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن شهاب: فأخبرني عروة أنه - صلى الله عليه وسلم - لقى الزبير في ركبٍ من المسلمين كانوا تجارًا قافلين من الشام، فكسى الزبير النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكرٍ ثياب بياضٍ، وسمع المسلمون بالمدينة مخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة، فكانوا يغدون كل غداةٍ إلى الحرَّة فينتظرونه

⦗٥٥١⦘ حتى يردهم حرُّ الظهيرة، فانقلبوا يومًا بعدما أطالوا انتظارهم، فلما آووا إلى بيوتهم أوفى يهوديٌّ على أطمٍ لأمرٍ يُنظر إليه فبصر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مبيضين يزول بهم السرابُ، فلم يملك أن قال بأعلى صوته يا معشر العرب هذا جدُّكم الذي تنتظرونه، فثار المسلمون إلى السلاح فلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظهر الحرَّة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوفٍ، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكرٍ للناس وجلس - صلى الله عليه وسلم - صامتًا فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - يجيء أبا بكرٍ حتى أصابت الشمس النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل أبو بكرٍ حتى ظل

عليه بردائه فعرفه الناس - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك، فلبث في بني عمرو بن عوفٍ بضع عشرةً ليلةً، وأسس المسجد الذي أُسس على التقوى وصلى بهم فيه، ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناسُ حتى بركت عند مسجد الرسول بالمدينة، وهو يُصلى فيه يومئذٍ رجالٌ من المسلمين؛ وكان مربدًا للتمر لسهلٍ وسهيلٍ؛ يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال - صلى الله عليه وسلم - حين بركت راحلته: ((هذا إن شاء الله المنزل)) ثم دعا الغلامين فساومهما بالمربد؛ ليتخذه مسجدًا، فقال: لا بل نهبه لك يا رسول الله، ثم بناه مسجدًا ثم فطفق ينقل معهم اللبن في بنيانه، ويقول وهو ينقلُ:

هذا الحمالُ لا حمالُ خيبر. ... هذا أبر ربنا وأطهر.

اللهم إنَّ الأجر أجر الآخرة. ... فارحم الأنصار والمهاجرة.

فتمثل بشعر رجلٍ من المهاجرين لم يسم لي.

قال ابن شهابٍ: لم يبلغنا أنه - صلى الله عليه وسلم - تمثل بيت شعرٍ تام غير هذه الأبيات. للبخاري (٢).


(١) من (ب).
(٢) البخاري (٣٩٠٦).