للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

٧٠٠٤ - كعبُ بنُ مالكٍ:

⦗١٤٢⦘ لم أتخلَّفْ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في غزوةٍ غزاها قطُّ، إلا في غزوة تبوكٍ، غير أني قد تخلَّفتُ في غزوة بدرٍ ولم يُعاتب أحدٌ تخلف عنها، إنما خرج يريدُ عير قريشٍ حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعادٍ، ولقد شهدتُ ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحبُ أنَّ لي بها مشهد بدرٍ، وإن كانت بدرٌ أذكرُ في الناس منها، وكان من خيري حين تخلفت من غزوة تبوكٍ أني لم أكن قطُّ أقوى ولا أيسر مني حينَ تخلفتُ، والله ما جمعتُ راحلتين قطُّ حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - يريدُ غزوةً إلا ورَّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوةُ، فغزاها - صلى الله عليه وسلم - في حرٍ شديدٍ، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا، واستقبل عدوًا كثيرًا، فجلى للمسلمين أمرهُم ليتأهبُوا أهبةَ غزوهم، وأخبرهُم بوجههِ الذي يريدُ، والمسلمون معه - صلى الله عليه وسلم - كثيرٌ لا يجمعُهم كتابٌ حافظ، فقلَّ رجلٌ يريدُ أن يتغيب إلا ظنَّ أنَّ ذلك سيخفي ما لم ينزل فيه وحيٌ، وغزا - صلى الله عليه وسلم - تلك الغزوة حين طابتِ الثمارُ والظلالُ، فأنا إليها أصعرُ، فتجهز - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معهُ، وطفقتُ أغدوا لكيّ أتجهز معُهم فأرجع ولم أقض شيئًا، وأقولُ في نفسي أنا قادرٌ على ذلك إذا أردتُ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمرَ بالناس الجدُّ، فأصبح - صلى الله عليه وسلم - غاديًا ولم أقض من جهازي شيئًا، ثم غدوتُ فرجعت ولم أقضِ شيئًا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعُوا وتفارط الغزو، فهممتُ أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلتُ، ثم لم يُقدَّر ذلك لي، وطفقتُ إذا خرجتُ في الناسٍ بعد خروج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يحزنني أن لا أرى لي أسوةً إلا رجلاً مغموصًا عليه في النفاقِ، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاءِ، ولم يذكرني النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغَ تبوكَ، فقالَ وهو جالسٌ في

القوم بتبوك: ((ما فعلَ كعبُ بنُ مالكٍ)) فقال رجلٌ من بني سلمة: يا رسول الله حبسهُ برداهُ والنظر في عطفيهِ، فقال له معاذُ بنُ جبلٍ:

⦗١٤٣⦘ بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا، فسكت - صلى الله عليه وسلم -، فبينا هو على ذلك رأى رجلاً مبيضًا يزول به السرابُ، فقال - صلى الله عليه وسلم - ((كُن أبا خيثمة)) فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري، وهو الذي تصدَّق بصاع التمر حين لمزهُ المنافقون، فلمَّا بلغني أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد توجه قافلاً من تبوك حضرني بثِّي، فطفقتُ أتذكرُ الكذب وأقولُ بم أخرجُ من سخطهِ غدًا، وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلمَّا قيل إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد ظلَّ قادمًا، زاحَ عني الباطلَ حتى عرفتُ أنني لن أنجو منه بشيء أبدًا، فأجمعتُ صدقهُ، وأصبحَ - صلى الله عليه وسلم - قادمًا، وكان إذا قدم من سفرٍ بدأ بالمسجدِ فركع فيه ركعتينِ، ثم جلس للناس، فلمَّا فعل ذلك جاءه المخلَّفُون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعةً وثمانين رجلاً، فقبل منهم علانيتهم وبايعهُم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى حتى جئتُ، فلمَّا سلمتُ تبسَّم تبسُّمَ المغضب، ثم قال: ((تعال)) فجئتُ أمشي حتى جلستُ بين يديهِ، فقال لي: ((ما خلفكَ، ألم تكن قد ابتعتَ ظهرك؟)) قلتُ يا رسول الله: إني والله لو جلستُ عند غيركَ من أهلِ الدنيا لرأيتُ أني سأخرجُ من سخطه بعذرٍ، ولقد أُعطيتُ جدلاً، ولكني والله لقد علمتُ أني لئن حدثتك اليوم حديث كذبٍ ترضى بهِ عني، ليوشكنَّ الله أن يُسخطك علىَّ، ولئن حدثتك حديثَ صدقٍ تجدُ علىَّ فيه، إني لأرجو فيه عفو الله، والله ما كان لي من عذرٍ، والله ما كنتُ قطُّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفتُ عنك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أمَّا هذا قد صدقَ، فقم حتى يقضي الله فيكَ))، فقمتُ وثار رجالٌ من بني سلمة فاتبعوني، فقالوا لي والله ما علمناك

أذنبتَ ذنبًا قبل هذا، لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بما اعتذر إليه المخلَّفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفارُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لك، فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردتُ أن أرجع إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأكذِّبَ نفسي، ثم قلتُ لهم: هل لقى هذا معي من أحدٌ؟

قالوا: نعم، لقيهُ معك رجلانِ، قالا: مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، قلتُ: من هما؟

قالوا: مرارةُ بن الربيع العامري وهلالُ بن أمية الواقفىُّ، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا، فيهما أسوةٌ، فمضيتُ حين ذكروهما لي، ونهى - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عن كلامنا أيُّها الثلاثةُ من بين من تخلَّف عنهُ، فاجتنبنا الناسُ، أو قال تغيروا لنا، حتى تنكَّرت لي في نفسي الأرضُ فما هي بالأرض التي أعرفُ، فلبثنا

⦗١٤٤⦘ على ذلك خمسين ليلةً، فأمَّا صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيانِ، وأمَّا أنا فكنتُ أشبَّ القومِ وأجلدَهُمْ، فكنتُ أخرجُ فأشهد الصلاة وأطوفُ في الأسواقِ، فلا يكلمُني أحدٌ، وآتي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلمُ عليه وهو في مجلسهِ بعد الصلاةِ فأقولُ في نفسي: هل حرَّك شفتيه بردِّ السلامِ أم لا؟

ثمَّ أصلي قريبًا منهُ وأسارقُهُ النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي نظر إلىَّ فإذا التفتُ نحوهُ أعرض عني حتى إذا طالَ علىَّ ذلك من جفوةِ المسلمين، مشيتُ حتى تسورتُ جدار حائطِ أبي قتادةَ، وهو ابنُ عمي، وأحبُّ الناسِ إلىّ، فسلمتُ عليه، فوالله ما ردَّ عليَّ السلامَ، فقلت له يا أبا قتادةَ: أنشدك بالله هل تُعلمني أني أحبُّ الله ورسولهُ؟

فسكتَ، فعدتُ فناشدتُهُ، فسكت، فعدتُ فناشدتُهُ، فقال: الله ورسولهُ أعلمُ، ففاضت عيناي، وتوليتُ حتى تسورتُ الجدار، فبينا أنا أمشي في سوق المدينةِ إذا نبطىٌّ من نبط أهلِ الشامِ ممن قدمَ بطعامٍ يبيعُهُ بالمدينة، يقولُ: من يدلُّ على كعبِ بنِ مالكٍ؟

فطفق الناسُ يشيرون له إلىَّ حتى جاءني، فدفع إلىَّ كتابا من ملكِ غسانَ، وكنتُ كاتبًا فقرأتُهُ، فإذا فيه أمَّا بعدُ: فإنه قد بلغنا أنَّ صاحبكَ قد جفاك، ولم يجعلك الله بدارِ هوانٍ ولا مضيعةٍ، فالحق بنا نواسك، فقلتُ حين قرأتُها: وهذه أيضًا من البلاء، فتيممتُ بها التنورَ فسجرُتها، حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحيُ، وإذا رسولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيني، فقال إنهُ - صلى الله عليه وسلم - يأمركَ أن تعتزل امرأتكَ، فقلتُ: أطلقهَا أم ماذا؟

قال: لا بل اعتزلها فلا تقربها، وأرسل إلى صاحبيَّ بمثلِ ذلك: فقلتُ لامرأتي: الحقي بأهلكِ وكوني عندُهم حتى يقضي الله في هذا الأمرِ، فجاءتِ امرأةُ هلالٍ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إنَّ هلالاً ضائعٌ ليس له خادمٌ، فهل تكره أن أخدمهُ؟

قال: ((لا، ولكن لا يقربنَّك)) فقالت: إنهُ والله ما بهِ حركةٌ إلى شيءٍ، ووالله ما زال يبكي منذُ كان من أمرهِ ما كانَ، إلى يومِهِ هذا، فقال: لي بعضُ أهلي: لو استأذنتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في امرأتكَ، فقد أذن لامرأةِ هلالٍ أن تخدمهُ، فقلتُ: لا أستأذنُ فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما يدريني (ما) (١)

يقولُ إذا استأذنتُهُ، وأنا رجلٌ شابٌ، فلبثتُ بذلك عشرَ ليالٍ، فكمل لنا

⦗١٤٥⦘ خمسونَ ليلةً مِن حين نهى عن كلامنا، فلما صليتُ صلاةَ الفجرِ صباحَ خمسينَ ليلةً على ظهرِ بيتٍ من بيوتنا، فبينا أنا جالسٌ على الحالِ التي ذكر الله منا، قد ضاقت علىَّ نفسي، وضاقت علىَّ الأرضُ بما رحُبت، سمعتُ صوت صارخٍ أوفى على سلعٍ، يقولُ بأعلى صوتِهِ: يا كعبَ بن مالكٍ أبشر، فخررتُ ساجدًا، وعلمتُ أنه قد جاء فرجٌ، وآذن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الناسَ بتوبةِ الله علينا، حين صلى صلاةَ الفجرِ، فذهب الناسُ يبشروننا، فذهب قبل صاحبيَّ مبشرونَ، وركضَ رجلٌ إلىَّ فرسًا، وسعى ساعِ من أسلم قبلي فأوفىَ على الجبلِ، فكان الصوتُ أسرع من الفرسِ، فلمَّا جاءني الذي سمعتُ صوتهُ يبشرني، نزعتُ له ثوبيَّ فكسوتهما إياهُ ببشارتِهِ، والله ما أملكُ غيرهُما يومئذٍ، واستعرتُ ثوبينِ فلبستُهما وانطلقتُ أتأمم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يتلقاني الناسُ فوجًا فوجًا يهنئوني بالتوبة، ويقولون لتهنك توبةُ الله عليك، حتى دخلنا المسجد، فإذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حولهُ الناسُ، فقام طلحة بن عبيد الله يهرولُ حتى صافحني وهناني، والله ما قام رجلٌ من المهاجرين غيره، فكان كعبٌ لا ينساها لطلحةَ، وقال: فلمَّا سلمتُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال وهو يبرقُ وجههُ منَ السرور: ((أبشر بخير يومٍ مرَّ عليك منذُ ولدتك أمُّك) فقلتُ: أمن عندك يا رسول الله أم من عندِ الله؟

فقال: ((بل من عندِ الله))، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا سُرَّ استنارَ وجههُ حتى كأنَّ وجهَهُ قطعة قمرٍ، وكنَّا نعرفُ ذلك، فلمَّا جلستُ بين يديه قلتُ: يا رسول الله إنَّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسولهِ، فقال: ((أمسك بعض مالك فهو خيرٌ لك) فقلتُ: فإني أمسكُ سهمي الذي بخيبر، وقلتُ: يا رسولَ الله إنما نجاني الله بالصدقِ وإنَّ من توبتي أن لا أحدِّثَ إلا صدقًا ما بقيتُ، فوالله ما علمتُ أحدًا من المسلمين أبلاهُ في صدقِ الحديث منذُ ذكرتُ ذلك للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أحسن مما أبلاني الله، والله ما تعمدتُ كذبةً منذُ قلتُ ذلك لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقى، فأنزل الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ

⦗١٤٦⦘ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ - إلى- رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: ١١٧] {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} - إلى - {مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: ١١٨: ١١٩] والله ما أنعمَ الله علىَّ من نعمةٍ قطُّ بعد إذ هداني للإسلام، أعظم في نفسي من صدقي في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا أكون كذبتُهُ فأهلكَ كما هلك الذين كذبوا، إنَّ الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شرَّ ما قال لأحدٍ، فقال: {سَيَحْلِفُونَ بِالله لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} - إلى - {الْفَاسِقِينَ} [التوبة: ٩٥: ٦٩] كُنَّا خلفنا أيُّها الثلاثةُ عن أمر أولئك الذين قبل منهم - صلى الله عليه وسلم - حين حلفوا لهُ، فبايعهُم واستغفر لهم، وأرجأ - صلى الله عليه وسلم - أمرنا حتى قضى فيه الله بذلك، قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} وليس الذي ذكر مما خلفنا تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفهُ إيانا وإرجاؤه أمرنا عمَّن حلف له واعتذر إليه فقبل منهُ (٢).


(١) في الأصل: لنا، والمثتب من البخاري ..
(٢) البخاري (٤٤١٨).