للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وإذا تمهد هذا فنقول يمكن أن لا يكون أمره - صلى الله عليه وسلم - بإحضار القرطاس وتجهيز جيش أسامة وكذا إخراجه المروان بطريق الوحي بل بطريق الرأي والاجتهاد. واختلافهم في أمثال ذلك لا نسلم أنه كفر لأن هذا القسم تكرر صدوره من الصحابة ولم يعاتبهم الله. وكان الله يترل الوعيد الشديد في أدنى إساءة أدب معه - صلى الله عليه وسلم - كما قال عز من قائل: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} (١) قال شارح المواقف نقلا عن الآمدي: كان المسلمون عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على عقيدة واحدة وطريقة واحدة إلا من كان يبطن النفاق ويظهر الوفاق، ثم نشأ الخلاف بينهم في أمور اجتهادية لا توجب إيمانا ولا كفرا وكان غرضهم إقامة مراسم الدين وإدامة مناهج الشرع القويم وذلك كاختلافهم عند قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته: "إيتوني بقرطاس" الخ وكاختلافهم بعد ذلك في التخلف عن جيش أسامة فقال قوم بوجوب الاتباع لقوله: "جهزوا جيش أسامة" الخ وقال قوم بالتخلف انتظارا لما يكون منه في مرضه. فإن قال قائل: ثبوت اجتهاده إنما هو بالوحي فصح أن جميع أقواله وأفعاله بالوحي، قلنا: فرق بين أن يكون كل فعل فعل وقول قول صادرا من الوحي وبين أن يكون جواز الاجتهاد ثابتا من الوحي وتكون الأحكام الاجتهادية بتفاصيلها مستنبطة من أدلتها التفصيلية ومقدماتها الفكرية ألا ترى أن أقوال المجتهدين من الأمة ليست من الوحي وإن كان اجتهادهم ثابتا بالوحي وهو قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} (٢) ولإن سلمنا أن جميعها بالوحي قلنا أن نمنع كلية المقدمة القائلة بأن مخالفتها كفر وسند المنع ما مر.

والذي وقع في كلام علماء ما وراء النهر من إن جميع أقواله - صلى الله عليه وسلم - بالوحي إنما المراد به والله أعلم ما سوى الأمور الاجتهادية والمقصود من التعميم بيان أن ما صدر من الوحي الجلي والخفي سواء، وهذا القدر يكفي في مقصودهم لأن الأحاديث الواردة في مدح الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم من قبل الإخبار بالمغيبات فهي لا بد من الوحي قال تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} (٣) وقال: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول} (٤) وعلى هذا التقدير يكون المراد من الوحي في قوله تعالى: {إن هو إلا وحيٌ يوحى} أعم من القرآن وغيره من الوحي، ولا شك إن مخالفة مثل هذه الأفعال والأقوال تستلزم مخالفة الوحي ومخالفته كفر والأحاديث الواردة في مدائحهم مما هي من إعلام الله سبحانه يقينا كثيرة بلغت الشهرة بل التواتر:

١ - منها ما رواه الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأبي بكر رضي الله عنه: "أنت صاحبي في الغار وصاحبي على الحوض".

٢ - ومنها ما رواه الترمذي أيضا أنه قال: "أتاني جبرئيل فأخذ بيدي فأراني باب الجنة الذي يدخل منه أمتي" فقال أبو بكر: يا رسول الله وددت أني كنت معك حتى أنظر إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما أنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة".


(١) الحجرات: ٢
(٢) الحشر: ٢
(٣) الانعام: ٥٩
(٤) الجن: ٢٧

<<  <   >  >>