للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

[معاني التأويل]

للتأويل عند العلماء ثلاثة معان: الأول: صرف الكلمة عن معناها الراجح إلى معناها المرجوح لدليل يقترن بها، ويسمى التأويل المحمود، ومثاله: قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:٢٤]، والجناح هو: الجارحة المعروفة، وهذا هو المعنى الراجح، والمعنى المرجوح هو: التواضع، فصرفناها إلى المعنى المرجوح لقرينة؛ لأنه يستحيل أن يكون للإنسان جناح.

مثال آخر: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد)، فكلمة (صلى) لها معنى راجح وهو: صلاة الجنازة، ولها معنى مرجوح وهو: الدعاء، فصرفناها إلى المعنى المرجوح لدليل، وهو أن الشهيد لا يصلى عليه.

وأما التأويل المذموم فهو: أن تصرف الكلمة من معناها الراجح إلى معناها المرجوح دون دليل، مثاله: قال تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:١٠]، فالمعنى الراجح أن اليد معلومة معناها عند الجميع، ومعناها المرجوح هو: القدرة، بل إن القدرة من مستلزماتها، وكوننا نقول: إن اليد بمعنى القدرة، وصرف للكلمة عن معناها الراجح إلى معناها المرجوح بدون دليل.

الثاني: بمعنى: التفسير.

وللقاسمي رحمه الله تعالى كتاب اسمه: محاسن التأويل، وكذلك لشيخ المفسرين ابن جرير الطبري كتاباً في التفسير يعتبر أقدم تفسير وأقرب تفسير إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ابن جرير الطبري توفى سنة ثلاثمائة وعشرة، يعني: في أوائل القرن الرابع، فهو قريب جداً من زمن تابعي التابعين والتابعين والصحابة، وقد كان شيخنا الشيخ عبد الرزاق عفيفي يقول: أنا لا أقرأ في التفسير إلا تفسير الطبري، وكان يكتفي به؛ لأن شيخ المفسرين ابن جرير الطبري في تفسيره لا يقول: تفسير الآية، وإنما يقول: تأويل الآية، فهو يأول الآية ثم يفسرها رحمه الله تعالى، وعليه فالتأويل بمعنى التفسير.

الثالث: وهو ما يئول إليه حقيقة الكلام، أي: الحقيقة التي يئول إليها الكلام، ولذلك قال الخضر لموسى: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:٧٨]، أي: سأنبئك بحقيقة هذه الأشياء: خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، فهذه الأمور ظاهرها تدمير وفساد، لكن باطنها كان لها حقيقة لا يعلمها إلا الله تعالى، وأوحى بها إلى الخضر عليه السلام.

وعليه فالذين قالوا: إن الواو استئنافية لا بد من الوقوف على لفظ الجلالة، ففهموا أن التأويل بالمعنى الثالث، أي: فهم حقيقة الكلام، فلا يعلم حقيقة تأويله إلا الله سبحانه.

والذين قالوا: إن الواو عاطفة فهموا أن التأويل بمعنى التفسير، فعطفوا الراسخين في العلم على لفظ الجلالة، وهذا يسمى عند العلماء بانفكاك الجهة، فحينما يقول الله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:٣]، ثم يقول في موضع آخر: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء:١٢٩]، فتجد بعض الناس يقول: إن الإسلام قد حرم التعدد؛ لأنه قال في موضع: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:٣]، ثم قال في موضع آخر: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:١٢٩]، فنقول له: أنت لم تفهم الآيات؛ لأن الجهة منفكة، فالعدل في الآية الأول يختلف عن العدل في الآية الثانية، فهو في الآية الأولى بمعنى: العدل في المسكن والملبس والإنفاق، أي: وإن خفتم ألا تعدلوا بين النساء في النفقة وفي السكن فواحدة، وفي الآية الثانية بمعنى: الميل القلبي، أي: ولن تعدلوا بين النساء في الميل القلبي، فربما قد يميل القلب إلى واحدة ولا يميل إلى الأخرى، وحديث: (اللهم إن هذا قسمي فيما أملك)، ضعيف، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يميل أكثر إلى عائشة رضي الله عنها، ولذلك استأذن نساءه أن يعالج في حجرتها في مرض موته، وأيضاً قالت سودة بنت زمعة -تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة وقبل عائشة - عندما أراد النبي أن يطلقها: ابق علي يا رسول الله وأعط ليلتي لـ عائشة، فخصت عائشة؛ لأنها تعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحبها أكثر، ولذا فهذا الميل لا في يدي ولا في يدك ولا في يد أحد من الناس، وإنما هو بيد الله عز وجل.

<<  <  ج: ص:  >  >>