للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَهُوَ خَلِيقٌ بِأنْ يصلَ ليد كُلِّ عربي قارئ، وَمَقْمَنَةٌ لأن يُتلى على كل أمي عابئ.

وقد اشتمل على حِكَم شتى في الأخلاق والآداب لا تتساوق تحت معنى واحد، إنما هي أشبه شيء بخواطرَ كانت تسنح كلما قَدَحَ تَأَمُّلُ ابنِ المقفعِ زَنْدَ فِكْرِهِ، ثم تأتي الْقَرِيحَةُ بَعْدُ.

وابن المقفع رَجُلٌ ثَبِيتٌ عَرُوفٌ، مُجَرَّذٌ مُجَرِّبٌ، طَلاَّعُ الثَّنَايا (١)، ثم هو رشيقُ القلم. وقد سطر في رَقِّ هذا الكتاب بقلمه السيال وأسلوبه البديع - الذي قلما يُبارى ويُوازى وإن ضَرَّجَ المحاكي الكلامَ وزينه - ما أفادته تجارِب الزمان، وما انتقاه من عيون الكلام (٢).


(١) يقال: فلان طلاع الثنايا: إذا كان يعلو الأمور فيقهرها بمعرفته وتجارِبه وجودة رأيه.
(٢) توجد عبارات أفادها ابن المقفع ممن كان قبله ودونها كما صرح هو بذلك، والعلم رحم بين أهله، وهاك مثالاً واحدًا، قوله: ((وَعَلَى الْعَاقِلِ - مَا لَمْ يَكُنْ مَغْلُوبًا عَلَى نَفْسِهِ - أَنْ لاَ يَشْغَلَهُ شُغْلٌ عَنْ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ: سَاعَةٍ يَرْفَعُ فِيهَا حَاجَتَهُ إِلَى رَبِّهِ، وَسَاعَةٍ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٍ يُفْضِي فِيهَا إِلَى إِخْوَانِهِ وَثِقَاتِهِ الَّذِينَ يَصْدُقُونَهُ عَنْ عُيُوبِهِ وَيَنْصَحُونَهُ فِي أَمْرِهِ، وَسَاعَةٍ يُخلي فِيهَا بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ لَذَّتِهَا مِمَّا يَحِلُّ وَيَجْمُلُ ... وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لاَ يَكُونَ رَاغِبًا إِلاَّ فِي إِحْدَى ثَلاَثِ خِصَالٍ: تَزَوُّدٍ لِمَعَادٍ، أَوْ مَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ، أَوْ لَذَّةٍ فِي غَيْرِ مَحْرَمٍ)).
فهذا الكلام رواه الحافظ ابن أبي الدنيا (رحمه الله) في كتاب "محاسبة النفس" رَقْم (١٢) بسنده عن وهب بن منبه قال: ((مكتوب في حكمة آل داود: حق على العاقل ... )) فذكره بنحوه. ورواه ابن حبان في "صحيحه" (٣٦٢ - إحسان) (٩٤ - موارد الظمآن)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" [(ج١/ص١٥٨ - ١٦٠/رقم٥٥١) ط/ مكتبة الإيمان]، والطبراني في "المعجم الكبير" (٢/ ١٥٧) رقم (١٦٥١) في أثناء حديث طويل عن أبي ذر الغفاري (رضي الله عنه) مرفوعًا، وفيه: ((أن صحف إبراهيم (عليه السلام) كانت أمثالاً كلها .. وفيها: على العاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله .... )) فذكره بلفظ مقارب، وسنده ضعيف جدًّا. كما أنَّ هناك عباراتٍ كثيرةً اقتبسها ابنُ المقفع من "كليلة ودمنة".
هذا، وحسبك دلالةً على نفاسة كتاب ابن المقفع هذا أن كثيرًا من العلماء البلغاء الأكابر قد بثوا حِكَمه في مصنفاتهم وإن لم يصرحوا باسمه، منهم الحافظ ابن حبان (رحمه الله) في كتابه الماتع "روضة العقلاء "، والعلامة شهاب الدين محمد بن أحمد الأبشيهي الشافعي في "المستطرف في كل فن مستظرف".

<<  <   >  >>