للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فغنّها، وهي لك الفداء ... إنّ غناء الإبل الحداء «١»

فانظر إلى قوله: «إنّ غناء الإبل الحداء»، وإلى ملاءمته الكلام قبله، وحسن تشبّثه به، وإلى حسن تعطّف الكلام الأوّل عليه. ثم انظر إذا تركت «إنّ» فقلت:

«فغنّها وهي لك الفداء، غناء الإبل الحداء»، كيف تكون الصّورة؟ وكيف ينبو أحد الكلامين عن الآخر؟ وكيف يشئم هذا ويعرق ذاك؟ حتى لا تجد حيلة في ائتلافهما حتّى تجتلب لهما «الفاء» فتقول: «فغنّها وهي لك الفداء، فغناء الإبل الحداء»، ثم تعلم أن ليست الألفة بينهما من جنس ما كان، وأن قد ذهبت الأنسة التي كنت تجد، والحسن الذي كنت ترى.

وروي عن عنبسة «٢» أنه قال: قدم ذو الرّمّة الكوفة فوقف ينشد الناس بالكناسة قصيدته الحائية التي منها: [من الطويل]

هي البرء، والأسقام، والهمّ، والمنى، ... وموت الهوى في القلب منّي المبرّح

وكان الهوى بالنأي يمحى فيمّحي، ... وحبّك عندي يستجدّ ويربح

إذا غيّر النّأي المحبّين لم يكد ... رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح «٣»

قال: فلما انتهى إلى هذا البيت ناداه ابن شبرمة «٤»: يا غيلان «٥»، أراه قد برح! قال: فشنق ناقته «٦» وجعل يتأخّر بها ويفكّر، ثم قال:


(١) البيت بلا نسبة في جمهرة اللغة (٩٦٤، ١٠٤٧)، والإيضاح (١/ ٩٤) طبعة دار الكتاب اللبناني، والإشارات للجرجاني (٣١)، والمفتاح للسكاكي: (٢٦٢). والضمير في قوله:
«فغنها» للإبل أي: فغن لها. الحداء بضم الحاء وكسرها: مصدر حدا الإبل إذا ساقها وغنى لها.
(٢) عنبسة: هو عنبسة بن معدان الغيل الميساني وهو أشهر من أخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي (بغية الوعاة) والكناسة هو سوق في الكوفة.
(٣) الأبيات لذي الرمة في ديوانه (٤٥) ط، دار الكتب العلمية، وهي في الأغاني منسوبة إليه (١٨/ ٣٣)، والأبيات في الديوان ليست متتالية، ورواية الديوان: «والهم ذكرها» بدل «الهم والمنى»، و «لولا التنائي» بدل «في القلب مني». وشطر البيت الثاني هكذا: «وبعض الهوى بالهجر يمحى فيمتحى». الرّسّ: ابتداء الشيء، والرسّ والرسيس واحد: أول الحمى الذي يؤذن بها ويدل على ورودها ورس الهوى في قلبه والسقم في جسمه رسّا ورسيسا، وأرس: دخل وثبت، ورس الحب ورسيسه: بقيته وأثره. اللسان (رسس).
(٤) ابن شبرمة: وهو عبد الله بن شبرمة من قضاة الكوفة توفي سنة (٤٤ هـ). شذرات الذهب (١/ ٧٠٧).
(٥) غيلان: وهو اسم ذي الرمة (غيلان بن عقبة).
(٦) شنق ناقته: شنق البعير يشنقه ويشنقه: كفه بزمامه حتى ألزق ذفراه بقادمة الرجل أو رفع رأسه وهو راكبه. القاموس (١٨/ ٣٤)

<<  <   >  >>