للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإذا ثبت من حاله أنّه لا يستطيع أن يصنع بالألفاظ شيئا ليس هو لها في اللغة، وكنّا قد اجتمعنا على أن «الفصاحة» فيما نحن فيه، عبارة عن مزيّة هي بالمتكلّم البتة وجب أن نعلم قطعا وضرورة أنهم وإن كانوا قد جعلوا «الفصاحة» في ظاهر الاستعمال من صفة اللفظ، فإنهم لم يجعلوها وصفا له في نفسه، ومن حيث هو صدى صوت ونطق لسان، ولكنّهم جعلوها عبارة عن مزيّة أفادها المتكلم في المعنى، لأنه إذا كان اتفاقا أنها عبارة عن مزيّة أفادها المتكلم، ولم نره أفاد في اللفظ شيئا، لم يبق إلا أن تكون عبارة عن مزيّة أفادها في المعنى.

وجملة الأمر أنّا لا نوجب «الفصاحة» للفظة مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي هي فيه، ولكنا نوجبها لها موصولة بغيرها، ومعلّقا معناها بمعنى ما يليها. فإذا قلنا في لفظة «اشتعل» من قوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: ٤]، أنّها في أعلى رتبة من الفصاحة، لم توجب تلك «الفصاحة» لها وحدها، ولكن موصولا بها «الرأس» معرّفا بالألف واللام، ومقرونا إليهما «الشيب» منكّرا منصوبا.

هذا، وإنّما يقع ذلك في الوهم لمن يقع له أعني أن يوجب الفصاحة للفظة وحدها فيما كان «استعارة»، فأما ما خلا من الاستعارة من الكلام الفصيح البليغ، فلا يعرض توهّم ذلك فيه لعاقل أصلا.

أفلا ترى أنه لا يقع في نفس من يعقل أدنى شيء، إذا هو نظر إلى قوله عز وجل: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ، هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ [المنافقون: ٤]، وإلى إكبار النّاس شأن هذه الآية في الفصاحة، أن يضع يده على كلمة كلمة منها فيقول:

«إنّها فصيحة؟» وسبب الفصاحة فيها أمور لا يشكّ عاقل في أنها معنوية:

أولها: أن كانت «على» فيها متعلّقة بمحذوف في موضع المفعول الثاني.

والثاني: أن كانت الجملة التي هي «هم العدوّ» بعدها عارية من حرف عطف.

والثالث: التعريف في «العدوّ» وأن لم يقل: «هم عدوّ».

ولو أنّك علّقت «على» بظاهر، وأدخلت على الجملة التي هي «هم العدوّ» حرف عطف، وأسقطت «الألف واللام» من «العدوّ» فقلت: «يحسبون كلّ صيحة واقعة عليهم، وهم عدوّ»، لرأيت الفصاحة قد ذهبت عنها بأسرها. ولو أنك أخطرت ببالك أن يكون «عليهم» متعلّقا بنفس «الصيحة»، ويكون حاله معها كحاله إذا قلت: «صحت عليه»، لأخرجته عن أن يكون كلاما، فضلا عن أن يكون فصيحا.

وهذا هو الفيصل لمن عقل.

<<  <   >  >>